ومن المؤسف أن أدى ما بين الأمراء ومختلف الجمهوريات من تحاسد حقير إلى انقسام خلفاء آل هوهنشتاوفن، وقد بلغ هذا الانقسام من الشدة ما صارت معه إيطالية مجزأة بين ميلان ورومة، وبعد قرنين من نهايتهم، إلى أربع عشرة دولة يقابلها في جنوب شبه الجزيرة «مملكة الصقليتين» الموحدة، ولم لم تسطع الوارثة الحقيقية للإمبراطورية الرومانية، إيطالية، أن تصبح موحدة؟ ولم لم تغد رومة نفسها سيدة البحر المتوسط؟ لقد وجدت أمم القرن الرابع عشر الكبرى وحدتها وفق لغتها، فتألفت فرنسة وإسبانية وإنكلترة، وأما إيطالية فقد اضطرت إلى خمسة قرون لبلوغها مثل ذلك، وهنالك لا بد من وجود أسباب عميقة أوجبت تأخر جهاد شعب مبدع نحو الوحدة مع أن عبقرية هذا الشعب لم تتغير منذ القرون الأولى تغيرا جوهريا ومع محافظته على موقعه الجغرافي الممتاز.
ويقوم أحد هذه الأسباب على ما كان من حروب أباطرة الجرمان المستمرة ورغائبهم، وتجد السبب الثاني في البابوية التي كان وضعها كوضع جمعية الأمم، فلم تكن من القوة ما تمنع معه نشوب حروب قومية، ولا من الضعف ما تعجز به عن تغذية الدسائس السياسية، ثم لا يمكن أمة أن تصبح أمدن أمم الأرض بلا عقاب كما هي حال إيطالية في القرنين أو القرون الثلاثة الآتية، وما كان من تقدم إيطالية في الشعر والفن، وذلك في دور تمزق فيه من قبل جيوش أجنبية وفاتحين، يذكرنا بأوج الحضارة الجرمانية في ألمانية العاجزة سياسيا، ومن المحتمل أن كان ميكل أنجلو ثمن الوحدة الإيطالية.
وارجع البصر إلى الزمن الذي كانت الحروب الصليبية فيه تدنو من نهايتها، إلى زمن دانتي وفردريك، لم تجد إيطالية فيه أولى أمم أوروبة، بل تجد الحضارة فيه منتشرة في جميع بلاد البحر المتوسط، فقد انطلق إنشاد الشعراء الجائلين من البروفنس إلى الرون فإلى مرسيلية، ثم جاوز غرب البحر المتوسط. وقد انتشرت شعائر بلاط كونتات طلوشة
15
ودوكات غسقونية
16
فبلغت بيوت الطبقة الوسطى الغنية في الجمهوريات الإيطالية، وقد كانت فنون القسم الغربي من البحر المتوسط وعاداته، على الأقل، فرنسية تماما حينا من الزمن.
ويظهر إنكليزي بغتة على شواطئ البحر المتوسط في ذلك الحين، يظهر العالم الرحالة الراصد الباحث المفضال: أبلارد الباذي.
وكان يوجد في جميع فروع العلم ميل جلي حتى في ذلك الزمن، حتى قبل دور النهضة بمائتي سنة، إلى الخلاص من المذهب الكاثوليكي وإلى تعلم علم الفلك من كتب بطليموس وتعلم علم الطب من كتب بقراط، وقد درست كليتا الحقوق من جامعتي بولوني وبادو مبادئ جوستينيان مع التحليل، وقد نقلت جامعة باريس إلى جامعة أكسفورد اكتشافاتها الثورية وذلك بواسطة طلبة من الإنكليز عادوا إلى بلدهم وفق أمر الملك، وقد سمت أجيال من العلماء في مونبليه وساليرم فوق قواعد المذاهب اللاهوتية، ومن قول رئيس المذهب الأفلاطوني في شارتر: «نحن أقزام على أكتاف عمالقة القرون القديمة، ولا ينبغي للآلهة القديمة أن تصدنا عن طريق الجنة.»
والآن يجلس حارس اللاهوت النصراني ثابتا في حجر رتاج شارتر الرمادي الملكي، وهذا هو أرسطو اليوناني اللحياني المتناسق الشعر والواضع دواته الكبرى على ركبتيه مشابها تولستوي أو مشابها ساحرا شرقيا أكثر من مشابهته حكماء البحر المتوسط. وأدعى الأمور إلى العجب كون العرب هم الذين أوجبوا بعث العلم القديم في مدارس إسبانية ومدارس جنوب إيطالية، والعرب هم الذين ردوا النصارى إلى أعظم منابع حضارتهم.
Bog aan la aqoon