ومن نتائج تلك الكارثة أن انتشر مذهب الفلاجلان الديني القائل بإمكان غفران ذنوب الإنسان إذا ما عذب بدنه الخاص، وقد بلغ عدد أنصار هذا المذهب من الكثرة في أثناء ذلك الوباء الجارف ما اضطر معه البابا إلى منع أولئك الفلاجلان، الألمان في الغالب، من السياحة نحو البحر المتوسط.
4
يبدو لنا أن دانتي وسان توما الأكويني أعمق مفكري البحر المتوسط في القرون الوسطى، وقد تعاقب الرجلان ، فكان الشاعر في التاسعة من سنيه حين وفاة القديس، وكان كلا الرجلين خياليا، عالما، لاهوتيا، فيلسوفا، وكان تأثير الدومنيكي في أثناء حياته أعظم من تأثير الشاعر في أثناء حياته، ثم حدث العكس، ولم يستطع أحد أن يقول أي الرجلين كان أعظم من الآخر.
ومع ذلك يمكن أن يسجل أمر رمزي، وذلك أن سان توما الأكويني الذي زار نصف أوروبة في حياته القصيرة ظل بعيدا من السياسة بعدا تاما، وأن دانتي لم يغادر إيطالية خلا ما كان من سفره إلى باريس على ما يحتمل، وأنه عاش أكثر من القديس مدة عشرين سنة وستة أشهر، وقد نشأ أكبر حافز لنشاطه السياسي عن نفيه الذي لم يبعده غير عشرين ميلا تقريبا، والذي لم يحرمه استعمال لغته الأصلية، ولا الاتصال بقومه، ولا دينه، ولا دراساته، ولا أصدقاءه.
ولولا كلفه السياسي، ولولا حقده، ولولا رغبته في الانتقام، ولولا تقلده منصب قاض ما ارتقى، على ما يحتمل، فوق شعراء الموضة الذين كانوا رفقاء شبابه، وعلى العكس، وعلى الرغم من كل شيء، كان توما يبقى مطابقا لنفسه بغير سياحاته وصلاته بالأسر المالكة ومناظراته، ومن توما تتألف، بين البابوات المتحللين والأساقفة الراغبين في الملاذ والصليبيين الأفاقين، صورة قادرة على الإيحاء إلى الأعقاب.
وقد اعتزل توما المجتمع كسان فرانسوا، وكان توما سليل أسرة قديمة، سليل كونتات أكوين الذين يرجع أصلهم إلى ناحية نابل، وولد توما في حصن على الجبل، لا في السهل كفرنسوا وأغستن؛ ولذا كان يسهل عليه أن يزهد في الدنيا، وهو، مع سيره على هذا الوجه، حافظ على جميع منافعه، فاستطاع أن ينصح ملك فرنسة وأن يسافر من كولونية إلى باريس مع ألبرتوس مغنوس وأن يقوم بأعمال مالية من أجل بيته، ويرفض توما أن يكون رئيسا للأساقفة؛ أي إن يقبض على زمام منصب يعد سبيلا طبيعيا للارتقاء إلى البابوية على الأرجح، ولكن توما وحده هو «الأمير الكبير» بين القديسين كما يبدو.
وعندما نقرأ أن معاصريه كانوا يسمونه «العلامة الملائكي العام»، نفكر في أمر إراسم الذي نال هذا اللقب بعد ثلاثة قرون، ولكن مع رفضه باسما نعت «الملائكي»، وما كان من سعي توما في إدخال أفكار أفلاطون ومناهج أرسطو إلى علم اللاهوت، أو في التوفيق بين علم اللاهوت وهذه الأفكار والمناهج على الأقل، يثبت أنه كان يعلو عصره. ومن تعاليمه أننا لا ندرك من الوحي ومن العقل غير أدنى الدرجات، ولكن بما أن الله الواحد هو مصدرهما فإن حاصل علم اللاهوت هو حاصل الفلسفة في وقت واحد، وتعليم مثل هذا ينطوي على شيء من الثورية، فيمكن في أدوار أخرى أن يؤدي إلى وصف الإكليريكي بالملحد بدلا من وصفه بالقديس. وقد عاش توما بين الوجد الديني والمنطق البارد فكان يألم من ذلك لا ريب، وقد فسر هذا بالأسطورة القائلة إن توما رأى قبل موته بثمانية أشهر أو تسعة أشهر من الرؤيا ما انقطع معه عن الكتابة، ويكفي هذا الانقطاع وحده لعده من ذوي العقول الكبيرة.
وكان لدى دانتي من موهبة الشكل ما كان يعوز توما، وعلى ما كان من تشابه الرجلين في بعض ما كتبوه فإن محور آثارهما لا يدور حول هذا، وقد كتب دانتي كتابه باللاتينية على أساس اللغة الشعبية، وكان يمكن توما أن يكتب قصائد بالإيطالية لا ريب، وكان كل من الرجلين قريبا من الآخر في أفكاره حول المثالية الأفلاطونية، والواقع أن كان دانتي يعد نفسه تلميذا لسان توما.
ويمكن تفسير عدم كتابة توما قصائد غرامية بثوبه الكنسي الأبيض خلافا لدانتي، ومع ذلك لا نرى كبير أهمية لذلك. وكان دانتي من أكابر الموظفين في مدينة فلورنسة أيام ازدهار عمره ابنا للسابعة والثلاثين، وكان، على خلاف توما، راغبا عن الزهد في هذه الدنيا حين نفي مع أربعة عشر وجيها لأسباب حزبية عامية. وإننا عندما نبحث في جدول هؤلاء السياسيين المبعدين فيقع نظرنا على اسم صاحب الرقم 11؛ أي على دانتي أليجيري، نعترف مرة أخرى بأن السلطة الزمنية تمحي، وبأن السلطان الذهني وحده هو الذي يستطيع أن يحافظ على سنائه في غضون القرون.
ولم يتجل معنى نصيب دانتي ولم تظهره سجيته إلا بعد ذهابه إلى منفاه، فهنالك أخذت عبقريته تتفتح، وبينما كان توما يزداد اتزانا ابنا للخامسة والثلاثين كان دانتي يعاني أعظم انفعال نفسي في حياته في مثل هذا العمر، وقد انتحل شعر الشعب ولسانه الذي كان عليه أن يكونه في بدء الأمر توسيعا لخيال العالم في تصويره التيتاني،
Bog aan la aqoon