وما كان بين حكومات الأعيان في البندقية وجنوة في القرون الوسطى من تحاسد طبيعي كان يحول دون سمو بعض الوجهاء فوق المجتمع، وما كان من عدم الميل إلى الفتح أبعد من تينك الجمهوريتين حكومات انقلاب كالتي أقامها رؤساء الأتباع في مدن إيطالية صغيرة، وكان هذا مدار شعورهم الجمهوري الوحيد ما ازدروا الجمهور كما ازدري من قبل دوكات البلاد المجاورة وأمرائها.
وكانت تانك الجمهوريتان مختلفتين دستورا، فبينما كانت البندقية تتدرج إلى الأريستوقراطية، كانت جنوة تصبح ديمقراطية في الحين بعد الحين، ومن شأن وضع كل منهما تعيين تاريخ كل من المدينتين تعيينا مختلفا، وانظر إلى جنوة، انظر إلى موقعها المفتاحي، تجدها قد ملقت
8
وهددت معا في كل زمان، وهي قد أبدت شقاقها الداخلي، ولا سيما تنافس أسرتي سبينولا ودوريا الكبيرتين، أمام الأمم الأجنبية التي كان كل من هاتين الأسرتين يستعين بها على الأسرة المزاحمة الأخرى، وهكذا فرض كونتات من الفرنج ودوكات من ميلان وملوك من فرنسة ونابل نفوذهم بالتتابع على جنوة كما بسطوا سلطانهم الكامل عليها في بعض الأحيان، وهكذا جرت هذه الجمهورية إلى الصراع بين الغلف والجبلن، وبين البابوات والأباطرة، ولم يبق سليما في غضون القرون غير أمرين، غير بنك سان جيورجيو الذي كان يمد الصليبيين وأمراء المسلمين بالمال مناوبة، وغير الأسطول المرهوب في جميع البحر المتوسط، وفي جميع هذه المغامرات انتزع شعب جنوة حقوقا جديدة من الأشراف وعرف كيف يحافظ عليها.
وفي البندقية ظل بنك سان ماركو والأسطول من العوامل الثابتة أيضا، ومع ذلك فقد أضيف إليهما عامل ثالث موطد لهما معين في نهاية الأمر للمخرج من تنافس المدينتين الطويل، وهذا العامل الثالث هو حس الاستقلال الذي تأصل في روح أهل البندقية ورسخ فيها بأسهل مما هنالك نتيجة لموقع هذا المصر المنعزل وقلة تطيابه، وعلى ما كان من قيام هذه المدينة فوق أوتاد قصفة كمصر مؤقت فإنها بقيت أقوى من الميناء المتوعد الذي كان قد أنشئ تحت حماية الحصون ذات الأسس المتينة، ولما طلبت بزنطة، وقد كانت في أوج مجدها، من البندقية أن تعترف بسيادتها، أرسلت هذه المدينة الفتاة القائمة على المناقع وفدا ليبلغ رفضها بهذه الكلمة الرائعة: «لم يسطع أي إمبراطور أو أمير أن يصل إلينا هنا، ونحن الذين أخرجوا هذه المدينة من المناقع.»
ويمضي زمن، فيهدد اللنبار والفرنج البندقية برا فيتلقون مثل ذلك الجواب.
وذاع منذ القديم صيت هؤلاء الصيادين الجذافين فطرة، فطلب نرسيس الذي كان أعظم قواد عصره من هؤلاء الملاحين الماهرين أن يكونوا ربابنة لنقل جيشه من غرادو، ومن ناحية أخرى أغرى الإمبراطور فردريك الثاني مفضلا أهل جنوة بأن يقودوا مراكبه، وبهذه المراكب وفي هذا المكان دافع أهل البندقية عن أنفسهم ضد أتيلا برا وضد بيبن بحرا، ومع ذلك فإن البندقيين لم يبدءوا بتجهيز مراكبهم لمكافحة قراصين دلماسية إلا حوالي سنة 1000 فقط، ثم بلغوا من الشهرة الكبيرة في الملاحة ما منحتهم بزنطة معه بعض الامتيازات في مقابل مساعدتهم البحرية تجاه الخطر النورماني، ثم بلغت سفن أسطولهم التجاري عددا لا يصدق، بلغت 3300؛ أي رقما يثير العجب في هذه الأيام أيضا.
وكنوز الشرق هي ما جلبه، منذ أيام الحرب الصليبية، هؤلاء الملاحون الذين كانوا في الغالب ملك بنوك وشركات في البندقية وجنوة، وكانت أدوار الحرب تزيد الفوضى العامة، وعاد بعض الجزر غير تابع لأية سلطة كانت، فبدا الوقت صالحا لمحاولة بعض الرؤساء المقاديم إقامة الحكم المطلق، ومع ذلك فإن ما فطر عليه أهل البندقية من روح الاستقلال انتصب ضد مثل هذه المغامرة، وقد أريدت موازنة طموح الأسر الثلاث التي كان أبناؤها يسعون تبادلا في نيل مناصب الرئاسة فأقيم مجلس وأنشئت قنصلية ذات رأسين، وقد عرف الأمراء التجار الذين كانوا سادة الجمهورية الحقيقيين أن يثلموا بذلك حد استبداد الرئيس وسلطات المجلس المنتخب معا، وقد قام بشئون الحكم في البندقية في عصر ازدهارها وبعد سقوط بزنطة ثم في جميع القرن الثالث عشر أريستوقراطيون ماليون؛ أي طبقة من الأعيان فخور بدمها وشجرة نسبها، وقد أقيم لهذه الطبقة نوع من مجالس الشيوخ لم يعتم أن تغلب الرؤساء عليه وأن صار يعين من قبل المحكمة العليا، ومع ذلك لم يكن أهل البندقية ليطيقوا نظاما استبداديا، فلما حاول الرئيس فالير أن ينادي بنفسه «أميرا للبندقية» نتيجة لانقلاب قام به سنة 1355 قطعوا رأسه على درج «سكالادي جيغانتي»، وقد خنق بعض المؤتمرين قريبا من عمودي «البيازتا» مواجهة للبحر، وذلك إلى أن فتنتين اشتعلتا حوالي سنة 1300 فأطفئتا سريعا.
وبلغ الحقد على جنوة أقصى حده لزيادة سلطانها الاستعماري، وكانت جنوة تأمل، حتى بعدما نالته من ضروب الفوز في الغرب، أن تفتح مراحل البحر المتوسط الشرقية حيث كانت وارثة بزنطة البندقية تسيطر بتجارتها على شواطئ بلاد اليونان وآسية، ومما اتفق لجنوة أيضا أن غلبت بيزة، أن غلبت هذه الدولة التجارية الثالثة الكبيرة في إيطالية، بعد صراع عدة قرون.
ولدينا بالوصف الرائع لمعركة ملورية الحاسمة التي وقعت في عرض بيزة سنة 1284 صورة عن إحدى المعارك البحرية في القرون الوسطى، وما كان يمازج جنوة من تقاليد حربية طويلة ومن شعور بالشرف أكثر تأصلا مما في البندقية حفز رئيسها دوريا إلى قيادة المعركة وإلى جلب جميع أسرته إلى المركب حتى النصر أو الهلاك معا، ويعد هذا مثالا من أمثلة التضحية التي لا تجد لها مكانا عند رؤسائنا في الوقت الحاضر.
Bog aan la aqoon