ولم يثبت، بما يقنع به، أن يسوع كان من تلك المنظمة، وإنما كانت روحه تشابه روح أعضائها، ولا أحد يشك في انتساب الرسل إلى هذه المنظمة، وقد كانوا يعيشون كالشيوعيين، وما كانوا يوجهونه إلى الأغنياء من التهم آل في القرن الرابع إلى آباء الكنيسة الذين منعوا كل مال خاص في الجمعيات الدينية. ومما وعظ به جان كريزوستوم أن كل شيء سيعدل بجعله مشتركا كما عند النصارى الأولين، حتى إن يسوع قال مكررا في إنجيل لوقا: «بع كل ما لك ووزع على الفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني.»
وما يحاول من فصل غريب ليسوع عن الشيوعية التي تجدد في أيامنا شغل بال متى كما شغل بال غيره من علماء اللاهوت الذين ظهروا بعده، حتى إن مارتن لوثر حاول كتم هذه المبادئ عن خوف ألماني من السلطات. والحق أنه لا صلة بين شيوعية النصارى الأولين والشيوعية السياسية الحديثة ما اقتصرت على الانتفاع بالأموال انتفاعا مشتركا، ولم يكن الإنتاج الزراعي ليسلم إلى المجتمع تسليما شافيا، وأما الصناعة، وقد كانت تافهة في ذلك العصر، فقد كان إمكان جعلها حكومية أقل احتمالا.
ومع ذلك كان يسوع أكثر ثورية مما يلوح أول وهلة، وكان يرمي بمشاعره إلى ما هو أبعد من ازدراء للمال. وقد حاولنا في كتابنا «ابن الإنسان» الذي ألفناه سنة 1929 أن نجد في الأناجيل إيضاحا لرواية عاميه الأخيرين الباطنية ولتحول طبعه الحليم الناعم إلى طبع قاتم متعاظم. وإذا نظرت إلى الفصل الأخير من نشاطه وجدت قوة أنبياء اليهود الثقيلة فيه أحيانا، وهنالك مثال ليسوع البزنطي الذي نراه جالسا على العرش الفسيفسائي كسيد للعالم.
ولكن يسوع الأخير هذا لم يعرف في زمنه، وهو، على العكس، قد استهزئ به أو أشفق منه.
وكان الرجال الثلاثة الذين هم أقوى رجال القرون القديمة أصدقاء لليهود، فقد اجتذب الإسكندر عددا كبيرا منهم إلى مدينته الجديدة فسكنوا حيين من أحيائها الخمسة، وقد حماهم قيصر من طقوس اليونان والرومان، وقد أعفاهم أغسطس من بعض قوانين الإمبراطورية، وبما أن اليهود كانوا لا يستطيعون حضور بعض الولائم العامة بسبب يوم السبت فإنه كان يأمر بتوزيع هداياه بعدئذ في حيهم وراء نهر التيبر.
وتجد سبب وضع هؤلاء الأقطاب في محافظة اليهود وغناهم وروح إبداعهم. ومن أحكام قانون المواريث الروماني أن كانت توزع جميع أموال الميت، ومن نتائج ذلك أن كانت الأمم الزراعية تحدد عدد أولادها، وإذا ما أضيف إلى ذلك استغلال العبيد والمزارعين وجد أنه كان يؤدي إلى خلو إيطالية من السكان، وعلى العكس كان يمكن اليهود الذين هم تجار، لا فلاحون، أن يوزعوا أموالهم بين أولادهم الكثيرين. واليهود كانوا يوجهون إليهم أنظار الأقوياء بسبب إلههم الواحد، والعالم التعب من آلهته القديمة كان يقبل على عادات فارسية ويهودية عن تعب، حتى إنه وجد في عصر يسوع من المؤرخين من كانوا ينتظرون من اليهود نوعا من التجديد العالمي. وبينما كانت روح البحث العلمي تضمحل على شواطئ البحر المتوسط، كان الشوق إلى الخوارق وسرعة التصديق يزيدان وكان يتمسك بكل ما يختلف عن الآلهة القديمة.
وكان من البدع في زمن يسوع وبعده قليلا انتحال اليهودية في المجتمع الروماني، ومن المعلوم أن اثنين من ملوك الشرق قد ختنا ليستطيعا الزواج بأختي الملك اليهودي أغريبا، وقد خانت الزوجتان زوجيهما ... وكانت زوج نيرون وأزواج كثير من أعيان الرومان من اليهوديات، أو كن حاميات لليهود، وصار المثقفون يخجلون من تعدد آلهتهم، واعتنق مؤلفو اليونان ما جاء في أسفار موسى من مبدأ الإله الواحد ومن مبادئ الأخلاق، وهم لم يغضوا عن غير الطقوس المقيدة كالسبت والختان وقواعد الطعام، وهم قد ابتدعوا يهودية منورة يمكن قياسها بيهودية القرن التاسع عشر.
وأثار اليهود في الوقت نفسه عوامل الحقد بثرائهم ومعارفهم وعاداتهم الغريبة، واليهود لم يعترفوا بأية ديانة أخرى على خلاف اليونان والرومان، واليهود زعموا أنهم يهبون إلى العالم إلههم الواحد، وفي ذلك العصر كان يطوف مبشرون منهم في جميع بلاد البحر المتوسط.
ومن قيصر استمد هيرودس سلطانه في عهده الذي دام أربعين عاما والذي يفسر به ذلك الدور، وقليل من اليهود من عرف أنه مدين بوجوده لذلك الروماني الكبير. وكان بونبي قد قهر، بعد معارك طويلة، دولة اليهود الصغيرة التي زعزعتها الفتن المتصلة فجعل منها محمية رومانية تشابه حكومتها الإلهية حكومة الفاتيكان بعد سنة 1870، وتلوح لقيصر فرصة دعوة محميه إلى مساعدته في مصر، وكان هذا في وقت حرج، وتلوح لنصف اليهودي العتيق أنتيبا الذي كان قد ساعد قيصر على الفرار، فرصة اختبار صفته النادرة، صفة عرفان الجميل لدى أحد الطغاة، فمنحه قيصر، كما منح ابنه هيرودتس، أنسب شرط تمتعت به محمية رومانية؛ أي أعفاه من الجزية ومن الجندية وأذن له في إعادة بناء حصن أورشليم، وسار أغسطس على سنة قيصر فأضاف إلى ذلك حتى لقب ملك.
وعرف هيرودس، الذي كان رومانيا أكثر من أن يكون يهوديا، أن يتملق الدولة الحامية بلباقة، ويعد هيرودس مثال الملك الغني الذي يوسع بلده ويفسده معا. وكان هيرودس يروق الرومان الذين كان يتردد إلى معابدهم ومسارحهم وألعابهم، ولكنه كان يغضب اليهود، فلم يعتم أن عد خائنا من الفريقين، وهو يحسب آية طريفة على الانحطاط كالذي يشاهد قبل الانقلابات الذهنية على العموم. أجل، كان هيرودس مرائيا في كل واحدة من حركاته، غير أنه كان فاتنا حتى بكلبيته. وكان هيرودس حائزا خليلات مصريات وجنودا من العرب وحرسا من الجرمان وخصيانا وقاصين وغلمانا وجواسيس، وقد تزوج هيرودس عشر مرات، فكان عنده من الولد الكثير ما يعد نفسه معه أبا الوطن.
Bog aan la aqoon