ولا تلبث الأطماع من ليس عنده ... من الدِّين شيءٌ أن تميل به النّفس
كان بشر بن الحارث ينشد هذه الأبيات كثيرًا متمثلًا بها:
المرء يزرى بلبِّه طمعه ... والدَّهر فاعلم كثيرةٌ خدعه
والنَّاس إخوان كلِّ ذي نشبٍ ... قد جاع عبدٌ إليهم ضرعه
وكلُّ من كان مسلمًا ورعًا ... يشغله عن عيوبهم ورعه
كما المريض السَّقيم يشغله ... عن وجع النَّاس كلِّهم وجعه
وقال آخر:
الله أحمد شاكرًا ... فبلاؤه حسنٌ جميل
أصبحت مسرورًا معا ... فًى بين أنعمه أجول
خلوًا من الأخزان خفّ ... الظهر يغنبني القليل
ونفيت باليأس المنى ... عنِّي فطاب لي المقيل
والنَّاس كلهم لمن ... خفَّت مؤونته خليل
باب ذمِّ السُّؤال
وحمد ما جاء عن غير مسألة من النَّوال
روى ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أن رسول الله ﷺ أعطى عمر بن الخطاب عطاءً، فقال عمر: يا رسول الله أعطه من هو أفقر مني. فقال رسول الله ﷺ: " خذه فتموله أو تصدق به، وما جاءك من هذا المال وأنت غير مستشرف إليه، ولا سائل له فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك ".
قال سالم: فمن أجل ذلك كان ابن عمر لا يسأل أحدًا ولا يردّ شيئًا أعطيه.
قال ثوبان: سمعت رسول الله ﷺ يقول: " لا تسألوا الناس " قال: فما سألت أحدًا شيئًا بعدها، فكان سوطه يسقط من يده، فما يسأل أحدًا أن يناوله إياه.
ومن حديث مالك، أن رسول الله ﷺ أرسل إلى عمر بن الخطاب بعطائه فردّه، فقال له: " لم رددته "؟ فقال: يا رسول الله! أليس أخبرتنا أن خيرًا لأحدنا ألاّ يأخذ من أحد شيئًا؟ فقال رسول الله ﷺ: " إنما ذلك عن المسألة، فأما ما كان من غير مسألة فإنما هو رزق ساقه الله إليك ". فقال عمر: والذي نفسي بيده لا أسأل أحدًا شيئًا ولا يأتيني شيءٌ من غير مسألة إلا أخذته.
قال أبو الدَّرداء: إنّ أحدكم يقول: اللهم ارزقني، وقد علم أنَّ الله لا يخلق له دينارًا ولا درهمًا، وإنما يرزق بعضكم من بعض، فإذا أعطي أحدكم شيئًا فليقبله، فإن كان غنيًا فليضعه في أهل الحاجة من إخوانه، وإن كان إليه فقيرًا فليستعن به على حاجته ولا يردّ على الله رزقه الذي رزقه.
قال عبد الله بن عمر: ما يمنع أحدكم إذا أتاه الله برزق لم يسأله أن يقبله، فإن كان غنيًا عاد به على أخيه، وإن كان محتاجًا كان رزقًا قسمه الله له.
قال رسول الله ﷺ: " من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم ". وقال رسول الله ﷺ: " للسائل خدوشٌ أو كدوحٌ يكدح بها الرّجل وجهه إلاّ أن يسأل ذا سلطان ".
وروي عنه ﵇، من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن النبيّ ﷺ قال " إذا دخل السّائل بغير إذنٍ فلا تطعموه ".
وقال ﵇: " من كان لا بدّ سائلا فليسأل الصّالحين، أو ذا سلطان، أو في أمر لا يجد منه بدًا ".
وقد أشبعنا هذا الباب وأوضحنا معانيه في كتاب " التمهيد " والحمد لله.
رفع الواقديُّ ﵀ إلى المأمون رقعة، فوقع فيها المأمون: إنك رجلٌ فيك خلّتان: سخاءٌ وحياءٌ، فأما السخاء فهو الذي أطلق ما في يديك، وأما الحياء فهو الذي منعك من أن تطلعنا على ما أنت عليه، وقد أمرنا لك بثلاثة آلاف درهم. فان كنا أصبنا إرادتك فذاك، وإن لم نكن فبجنايتك على نفسك، وأنت حدثتني وأنت على قضاء الرشيد، عن محمد بن إسحاق، عن الزُّهري، عن أنس، أن رسول الله ﷺ قال للزُّبير " يا زبير! إن مفاتيح الرزق، بإزاء العرش، ينزل الله للعباد أرزاقهم على قدر نفقاتهم، فمن كثَّر كثِّر له، ومن قلَّل قلِّل له ". قال الواقديّ: فقلت له: يا أمير المؤمنين! قد نسيت هذا الحديث، فكان تذكارك إياي له أعجب إليّ من الجائزة.
قال أبو العتاهية:
إذا ما المرء صرت إلى سؤاله ... فما تعطيه أكثر من نواله
ومن عرف المحامد جدّ فيها ... وحنَّ إلى المكارم باحتياله
1 / 31