مقدمة
باحثة البادية
1 - كيف عرفتها
2 - المرأة
3 - المسلمة
4 - المصرية
5 - الكاتبة
6 - الناقدة
7 - المصلحة
8 - قاسم أمين وباحثة البادية: المقابلة بينهما
Bog aan la aqoon
9 - قاسم أمين وباحثة البادية: المقابلة بينهما (تابع وخاتمة)
10 - بين كاتبتين1
11 - مرثاة باحثة البادية1
12 - تأثير باحثة البادية
13 - تأبين باحثة البادية1
مقدمة
باحثة البادية
1 - كيف عرفتها
2 - المرأة
3 - المسلمة
Bog aan la aqoon
4 - المصرية
5 - الكاتبة
6 - الناقدة
7 - المصلحة
8 - قاسم أمين وباحثة البادية: المقابلة بينهما
9 - قاسم أمين وباحثة البادية: المقابلة بينهما (تابع وخاتمة)
10 - بين كاتبتين1
11 - مرثاة باحثة البادية1
12 - تأثير باحثة البادية
13 - تأبين باحثة البادية1
Bog aan la aqoon
باحثة البادية
باحثة البادية
تأليف
مي زيادة
مقدمة
لما اقترحت على كاتبة الفصول التالية
1
أن تتحف «المقتطف» بخلاصة ما كانت باحثة البادية تنادي به لم أنتظر أنها تعنى بقراءة كل ما كتبته الباحثة وما يضارعه مما كتبه قاسم بك أمين، وتعرض خلاصة ذلك للقراء على صورة تختلب الألباب بحسن بيانها وبديع انتساقها وقوة حجتها، وتكون نموذجا جديدا للنقد في العربية بالأسلوب الذي جرت عليه؛ فإنها مهدت لكل فصل من هذه الفصول وختمته وعلقت عليه من آرائها الخاصة وأقوال أئمة الكتاب بما يدل على واسع علمها وبعد نظرها، وعلى أنها جارت أكتب الكتاب الأوروبيين في هذا النوع من البحث والانتقاد. ولا أتذكر أنني رأيت حتى الساعة من ضارعها فيه من كتاب العربية ولا من فاقها من الأوروبيين. والظاهر أن هذا رأي كثيرين غيري، حتى اقترحوا عليها جمع هذه الفصول وطبعها على حدة، ففعلت وأضافت إليها كثيرا مما له علاقة بهذا الموضوع.
وبعد، فليس غرضي من هذه السطور التنويه بكاتبة هذا الكتاب؛ لأن القراء يعرفونها كما أعرفها، بل إبداء رأيي في كتاب أخرجته للناس ناظرا إليه من أربعة أوجه: وهي الأسلوب والإحاطة والتعليق واللغة. وسأكتفي بالإشارة الطفيفة إلى كل وجه منها، وإلا لزمني أن أنشئ على الكتاب كتابا أوسع منه إن استطعت. (1) الأسلوب:
أسلوب الكاتبة في هذه الفصول غاية في الإحكام؛ انظر إلى التمهيد الذي عقدت له الفصل الأول والثاني، فعرفت القراء بنفسها وبباحثة البادية وبما بينهما من الرابطة الأدبية. ثم تدرجت إلى التفصيل فوصفت وجه الباحثة وعقلها وأسلوبها في الكتابة. صورتها لعين القارئ كما كانت تراها بكل معانيها، حتى يحسب من يقرأ ما اقتبسته من أقوالها أنه يسمع شخصا يكلمه بصوته الحي ويعرف هويته وأمياله. وجرت على هذا الأسلوب في كل فصل من هذه الفصول؛ فإنها مهدت له تمهيدا فلسفيا حسب موضوعه؛ لتتدرج بالقارئ إليه وتعد انتباهه إلى ما فيه من رأي أو انتقاد أو نصح أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر. ثم نثرت أقوال الباحثة المرتبطة بموضوع ذلك الفصل وشرحتها وعلقت عليها ما يزيدها بيانا أو يزيل ما فيها من شبهة أو يخالفها فيما ترى مخالفتها فيه. ولما استطردت إلى المقابلة بينها وبين قاسم بك أمين، جرت على هذا الأسلوب عينه في الفصلين اللذين عقدتهما لذلك. ولعلها أنصفت قاسم بك أمين مثل أعز أصدقائه الذين كتبوا عنه. وما غرضها إلا إنصاف الموضوع الذي تكتب فيه والغاية التي ترمي إليها وهي إصلاح شأن المرأة. (2) الإحاطة:
Bog aan la aqoon
وأي إحاطة فإنها بحثت فيما كتبته باحثة البادية كامرأة مسلمة مصرية كاتبة نافذة مصلحة. ومن الغريب أن عقلها الجامع البحاث أشار إلى هذه الصفات كلها قبلما كتبت سطرا من هذه الفصول، كأنها نظرت بعين بصيرتها إلى كل ما كتبته باحثة البادية فرأتها تتجلى فيه بصفاتها المذكورة آنفا، فلم يتعذر عليها أن تستخلص منه حقائق كثيرة أيدت نظرها. أحاطت بالموضوع من كل جهاته وعززته بآراء الباحثة وأقوالها وبما مهدته لها وعلقته عليها. ولا نظن أنها تركت زيادة لمستزيد. وكل من عانى البحث في مؤلفات الغير المتشعبة الشئون يعلم ما في الإحاطة بمناحيها من المشقة. ومن من الكتاب لا يود أن يتاح له مثل الآنسة مي تحيط بما تكتبه وتشرحه وتعلق عليه تعليق إنصاف ولو كان انتقادا، ولكن هيهات؛ فإني لم أر حتى الساعة كتابا مثل هذا في العربية. (3) التعليق:
هذا في نظري من أبلغ ما كتبته الآنسة مي؛ فإن مدركات العقل مهما كثرت لا تفيض بقوتها وغناها ومجدها إلا لدى احتكاكه بعقل آخر مضاه له، حينئذ تتنبه النفس إلى ما خزنته من المعارف وما وصل إليها بالإرث من الآباء والجدود ، وتنهض القوة الناطقة: قوة الاستحضار والتمثيل والقياس، وتنهض البداهة وتنبه المبدأ الفياض إلى سرد الأمثلة والأدلة وإقامة البراهين الخطابية والمنطقية وتأييدها بالحقائق العلمية والمسلمات العرفية والشواهد الاجتماعية. وهذا كله ظاهر في كل صفحة من صفحات هذا الكتاب. فهو كتابان: كتاب باحثة البادية أو خلاصة ما كتبته في موضوع النساء، وكتاب الآنسة مي الذي جمعت فيه هذه الخلاصة وشرحتها وعززتها وعلقت عليها زبدة معارفها الواسعة، وختمته بالمقابلة بين باحثة البادية وقاسم بك أمين. وألحقت به ما دار بينها وبين باحثة البادية من المراسلات. والكتابان والخاتمة في موضوع واحد هو أهم المواضيع الاجتماعية في هذا القطر، ألا وهو المرأة المصرية وكيف تصلح شئونها فتصلح بها البلاد. (4) اللغة:
اللغة معربة، خاصة بالكاتبة في أسلوبها، دالة على ذاتيتها. وكذا تكون لغات كبار الكتاب. يرى القارئ لأول وهلة أن الكاتبة خرجت عن مألوف كتابنا الأقدمين والمحدثين في كثير من أنواع المجاز والتعابير، كأن قريحتها الوقادة رقت بها فوق مألوف العادات وعقلها المبتكر حلق بها في سماء الخيال شأن كل نابغة في عصره؛ فإنه يكثر الابتكار ويكره التقليد.
وإذا كان بعض استعاراتها مقتبسا من لغات أوروبية فذلك ليس بدعة في العربية، ولا هي أول من فعل ذلك، بل قد سبقها إليه جماعة من أساطين الكتاب، مثل الجاحظ والصابي وابن المقفع وابن خلدون، فزادوا في غنى العربية بما أضافوه إليها.
وهذا شأن كل الذين ابتكروا لغاتهم، مثل كارليل ولورد أفبري وفيكتور هيغو ولامرتين ومثل الكتاب الرومان الذين كانوا يحسنون اليونانية قبلما يكتبون لغتهم. وإدخال الجديد في اللغة ضروري لحياتها وإلا انحطت وتلاشت شأن الأسر التي لا يتزوج أعضاؤها إلا في بعضهم.
وإلى القارئ مثلا واحدا مما كتبته في وصف باحثة البادية ككاتبة، حيث قالت:
وما حاجتي إلى الكلام عنها كاتبة؟! إننا لو ضربنا صفحا عن شهادة من شهد لها بالمقدرة الكتابية، مكتفين بما ورد من أقوالها في الفصول الماضية، لأثبنا على الورق ما قد سبق وقرره حكمنا الصامت، وهو أنها كاتبة كبيرة. يطلق الناس عادة اسم «الكاتب الكبير» على من كتب كثيرا، وهم في ذلك مخطئون؛ إن من حملة الأقلام من له مؤلفات عديدة وهو ليس بالكاتب الكبير حتى ولا بالصغير؛ لأنه ليس كاتبا على الإطلاق؛ إنه ينقصه ما يسميه الإفرنج «قماش الكاتب»؛ أي السر الذي يقود الفكر إلى اختيار الألفاظ الصائبة ويعلم اليد صياغة الجملة الملائمة. وينقصه خصوصا ذلك اللهيب الخفي الذي ينشر بين السطور أشباح النور والظلام.
ما هي الكلمة؟
الكلمة التي تعين الحركة والإشارة والصوت واللون والانفعال، الكلمة التي تعني أمرا دون آخر وتوقظ عاطفة دون غيرها، ما هي وما هو سر انتخابها؟ الأبجدية لجميع البشر، والناس لا يتفاهمون عادة إلا بالكلام، فما هي تلك القدرة المعطاة للبعض ليرسموا بالحروف الوجوه ونوع استدارتها، والشفاه وحدود ثناياها، والآفاق واتساعها اللانهائي، والليل وعمقه وكواكبه، والنفس وعجائب خفاياها؟ كيف تنبض في الألفاظ المجردة الجامدة حياة سريعة متقدة بثورة الشعور وهيجان الغضب وأنين الشكوى ورنين النجاح والظفر؟ لماذا تهتز الألفاظ تارة كالأوتار وتولول طورا كأمواج البحر العجاج، وتهمس حينا همسا عجيبا كأنما هو منطلق من سحيق الذراري ومبهم الآمال القصوى؟
قال فيكتور هوغو أن الكلمة كائن حي،
Bog aan la aqoon
2
وقد تكون خالقا ساعة تجعل المخيلة ترى ما لا يرى، وتنظم القرطاس أفقا مفعما بالكائنات الجميلة، وتصبح سحرا يصير الغائب حاضرا والعدم وجودا.
إن للإفصاح عن الفكر أساليب جمة، ولكن لا يصلح للكاتب الواحد إلا أسلوب واحد، وهو الذي يتفق مع ذاتيته. كلنا عالم ذلك. وكلنا باحث عن الطريقة التي ... فأجارك الله يا أيها الباحث من الطريقة التي ... إنك لتهوي قبل الوصول إليها في دركات التصنع والتكلف والتعمل، وتتيه في فيافي الخلو والتقعر والجفاف. وإذا حاولت النهوض من الدركات أو العودة من الفيافي تعثرت قدماك وقلمك بذيول الزوائد والحواشي الجاهزة بين المتداولات كالحلوى على أطباق حلواني العيد. أو داهمك مرض الاختصار الجاف فيشعر قارئك الشقي بأنه حكم عليه بسف التبن لجريمة مجهولة منه ومن البشر أجمعين.
إن أفلاطون الذي اشتهر ببلاغته اشتهاره بفلسفته ظل ينسخ كتابه «الجمهورية» إلى عمر الثمانين ليزيده تحسينا وإصلاحا؛ ذلك لأن الكتابة - التي يراها الكثيرون مسألة هينة - أكثر الفنون دقة وعسرا. ولا أظن اكتشاف القطب أصعب على الرحالة من اكتشاف الأسلوب (هذا القطب الآخر) على الكاتب الذي عنده شيء يقوله؛ لأن نفسه تفيض به وتحثه على إعلانه. كلمات النفس حركات خفيفة لطيفة. فكيف يتيسر نقل هذه الخفة واللطافة بالكلمات البشرية الكثيفة؟ وكيف تتبع أداة القلم خطوات النفس الوثابة الكثيرة الأهواء في تموجها وتحنيها المباغت من الفرح إلى الحزن ومن التحنان المذيب إلى النقمة البركانية؟ إن ذلك لسر تملص من القواعد والنصوص وترفع عن أن تلقيه الضمائر إلى الألسنة، وهو كل مقدرة الكاتب أو كل ضعفه.
فإثباتها الصمت للحكم والعمق لليل والنبضان للحياة والأنين للشكوى والرنين للظفر والولولة للألفاظ والتموج للنفس، وقولها: إن من حملة الأقلام من له مؤلفات عديدة وهو ليس بالكاتب الكبير ولا بالصغير، وإنه قد يكون بين سطور الكاتب لهب خفي ينشر بينها أشباح النور والظلام، وإن البعض يستطيعون أن يرسموا بالحروف الوجوه ونوع استدارتها والشفاه وحدود ثناياها والآفاق واتساعها اللانهائي وأنه لا يصلح للكاتب الواحد إلا أسلوب واحد يتفق مع ذاتيته، ثم قولها: «إن من يحاول الوصول إلى هذا الأسلوب محاولة يهوي في دركات التصنع والتكلف وتتعثر قدماه وقلمه بذيول الزوائد والحواشي الحاضرة بين المتداولات، كالحلوى على أطباق حلواني العيد، أو يداهمه مرض الاختصار الجاف فيشعر قارئه الشقي بأنه حكم عليه بسف التبن.» كل ذلك من المعاني التي تكاد تكون مبتكرة في العربية. وقد أيدتها بأقوال أعظم شاعر فرنساوي وأكبر فيلسوف يوناني.
حسبي هذا الشاهد من فصولها للدلالة على بلاغتها في التعبير عما في نفسها وعلى ابتكارها المعاني وإفراغها في قوالب جديدة واستعارات أنيقة وإلا لزمني أن أنقل أكثرها ما كتبته تمهيدا وتعليقا وشرحا وتفصيلا. فهل قرأت كتب مشاهير الكتاب في أوسع اللغات الأوروبية التي تحسنها فرسخ في ذهنها كثير من أساليبهم وتخيلاتهم التي لم نألفها، أو نشأت نسيج وحدها نظرها يخترق حجب الغيب وجواهر الهيولى فيرى فيها ويؤلف منها بدائع الصور ونفائس التراكيب ، أو هي مجموعة من الاثنين الخلقي والمكتسب. قريحة وقادة تختلق الصور كما تشاء، وعقل مستقل يكره القيود إلا ما وقع عليه الإجماع، وذاكرة كثيرة الحفظ سريعة الاستحضار تسابق قلمها إلى تصور ما يتخيله ذهنها مبتكرا كان أو مقتبسا. •••
وإني أعد الساعة التي اقترحت فيها على الآنسة ماري زيادة أن تجول في هذا المضمار من أسعد الساعات التي مرت في حياتي. وبهذه الكليمات أقدم كتابها إلى القراء.
يعقوب صروف
باحثة البادية
هي ملك هانم، كريمة اللغوي المحقق المرحوم حفني بك ناصف الذي شغل المناصب العالية في وزارة المعارف والقضاء. ولدت بالقاهرة يوم الاثنين من شهر كانون الأول (ديسمبر) سنة 1886، وتلقت مبادئ العلوم في مدارس أولية (مكاتب) مختلفة، ثم دخلت المدرسة السنية في تشرين الأول (أكتوبر) سنة 1893، وحصلت منها على الشهادة الابتدائية سنة 1900، وهي أول سنة تقدمت فيها الفتيات المصريات لأداء الامتحان للحصول على تلك الشهادة. ثم انتقلت إلى القسم العالي في المدرسة المذكورة وحصلت على الشهادة العالية (دبلوم) سنة 1903. واشتغلت بعد ذلك بالتعليم في مدارس البنات الأميرية.
Bog aan la aqoon
وفي 28 آذار (مارس) سنة 1907 اقترن بها صاحب السعادة العربي الصميم عبد الستار بك الباسل وجيه قبيلة الرماح بالفيوم.
وتوفيت بالحمى الإسبانيولية في القاهرة ليلة الخميس 17 تشرين الأول (أكتوبر) سنة 1918.
الفصل الأول
كيف عرفتها
في مثل هذا الشهر كانون الثاني (يناير) منذ سنوات خمس اجتمعت بباحثة البادية للمرة الأولى. كانت تقضي فصل الشتاء في حلوان، وقد دعتني إليها على غير معرفة سابقة سوى معرفة القلم، بعد أن تبادلت وإياها بعض الرسائل في الصحف السيارة. دعتني على أثر رثائي ساعة فقدتها يومئذ فكتبت تقول: «إني وجدت ساعتك المفقودة والتقطتها. رأيتك ترثينها بحرقة فجئت لأمسح دموعك؛ لأني أحب دائما أن أمسح دمعة المحزون. تعالي إلي لتأخذيها؛ فإنها أحست بشوقي لرؤيتك فأتت تقدمة لمجيئك وتعارفنا. عثرت علي وعثرت عليها لنؤكد لك أنك وجدت الصديقة التي لا تخون.»
1
ترى ما الذي دفعها إلى ذلك؟ أهي النفس العلمية التي لا يفوتها سر من الأسرار ذكرت أنه قدر علي أن أحمل القلم يوما لأبكي المرأة الجذابة وأستخرج أمثولة من كتابات المرأة الخالدة؟
ذهبت إليها والشفق يضرم ناره في قلب الأفق والسحب قد انقلبت هنا لهيبا، وهناك أنوارا، وهنالك ألوانا. أي نفس لا ترتعش اغتباطا أمام جلال الغروب؟! والغروب في مصر أبرع جمالا منه في أي قطر آخر، وهو يبرز على أبدع ما يكون للسائر في قطار حلوان، مشهد رائع لا ينساه حياته من رآه مرة واحدة، فيه تبدو الأهرام كأنها ما تحجر من فؤاد الأيام وبعدها في أطراف الأفق يكسبها جمالا غريبا شفافا كجمال الأحلام.
على أن اغتباطي بمنظر الغروب في ذياك المساء لم يكن ليلهيني عما ينتظرني من جديد، ولا ليحبس عن ذهني أسئلة تتعاقب على فكر المرء قبيل اجتماعه بشخص غريب. إنما نحن نميل إلى الغريب ونميل عنه في آن واحد. وإذا دنت لحظة موعد ضرب بينه وبيننا للمرة الأولى فإننا لا ننفك متسائلين على غير إرادة (وغالبا على غير معرفة) منا: «ترى كيف هو؟ على أي قرار يوقع نغمة صوته، وإلى أي الألوان يقرب لون عينيه؟ كيف يبتسم ويتكلم ويتحرك؟ بل كيف يفتكر، وأي الأفكار متغلب عليه، وعلى أي الأساليب تتكون الفكرة في خاطره؟ ترى هل يتفاهم منا الروحان بلغتهما المختلفة عن لغة الشفاه الإصلاحية، أم نحن الساعة ملتقيان ليعلم كل منا أننا لسنا من وطن معنوي واحد، وأن بين مزاجينا هوة لا يزيدها التعارف إلا اتساعا؟»
أسئلة إنما ينحصر الجواب عنها جميعا في النظرة الأولى التي يتبادلها الغريبان، رجلين كانا أو امرأتين أو رجلا وامرأة، أو خادما ومخدوما، أو نظيرا ونظيرا، أو كبيرا وصغيرا. وتلك النظرة تسفر دائما عن إحدى عاطفتين اثنتين تتفاوت من كل منهما الدرجات: فإما انجذاب وإما تقلص، والانجذاب ميل والتقلص نفور.
Bog aan la aqoon
كنت أتدرج من هذه الأسئلة إلى غامض المعاني التي يحاول علماء النفس استكناهها وأردفها بهذا السؤال الواضح: «أهذه المرأة التي سأصافحها بعد هنيهة هي الباحثة التي تنشر على الناس أفكارها، أم صدق الزاعمون أن ليس لها من فصولها إلا التوقيع كما هي الحال عند بعض السيدات الشرقيات اللاتي تعمدن التظاهر بالتفكير والتحبير؟»
والجواب عن مثل هذا السؤال قد يظهر في نظرة واحدة أو بسمة، أو حركة يأتيها الغريب فيستجلي منها اللبيب حياة ذلك الغريب وقواه الخفية وما يمكنه القيام به من الأعمال. هذا على شرط أن يكون الاثنان من درجة معنوية واحدة أو
Attuned
كما يقول الإنجليز. •••
وصلت إليها وقد تزركش رداء الليل بوشي الكواكب، ثم نشرت في الغد وصف زيارتي في إحدى الصحف الفرنساوية
2
فأستعين الآن ببعض ما جاء في ذلك المقال؛ لأني كتبته تحت تأثير المقابلة الأولى. وهاك وصف غرفة الاستقبال:
قضينا ساعة ونيفا في غرفة الاستقبال، واللون المتغلب في تلك الغرفة هو الأحمر العقيقي، تتخلله نقوش خضراء فستقية ومزيج ألوان أخرى تبدو واهية الخطوط تحت نور الكهرباء. ولم يكن ثمة ما يخبر عن عبوس الحجاب الإسلامي في تلك «الفيلا» الأوروبية، بين أثاث دقيق الصنعة ومقاعد فصلت على أحدث طرز، مع ما نشر على الطاولات النحيفة القوائم من الأشياء الفنية الصغيرة التي لا اسم لها وهي من صنع عمال المغرب أو من قلدهم من عمال المشرق الحاذقين.
كان هتافها الأول هتاف ترحيب وكلمتها الأخيرة كلمة حب. واستغرقت الوقت بين طرفي الزيارة مناقشة ودية في بعض ما عالجته الباحثة من الموضوعات كتعليم البنات، والحجاب، والسفور، وكانت تحدثني بصوت أغن الرنين تملؤه لهجة الواثق مما يقول، المعتقد بصلاح فكره، العالم أن آراءه مفيدة كل الفائدة لو كان لها الناس تابعين. وإذا وجدت الكلمة العامية ركيكة إذا ما عبر بها عن بعض المعاني، استعملت الكلمة اللغوية مكانها بنطق عربي فصيح مستشهدة بأبيات شهيرة وحكم سائرة تعزيزا لآرائها، وعلى وجهها هيئة المحقق الجاد وفي عينيها نظرة بعيدة. وإذ نحن على هذه الحال إذا بقريبة لها قد هبطت علينا من الصعيد على غير انتظار. وكانت باحثة البادية سبقت وقالت لي حين وصولي: «رغب بعض صديقاتي في المجيء للتعرف بك، على أني أردت أن نكون وحدنا في اجتماعنا الأول.»
ولكنها لم تبد انزعاجا بل ظهر السرور في وجهها وتحولت المرأة المفكرة دفعة واحدة امرأة ضحاكة كأنما لم تكن هي التي كانت منذ هنيهة تستشهد بالمعري والمتنبي. وقد ذكرت ذلك في مقالي الفرنساوي: «جاءت قريبتها من الفيوم فأخذتا تتكلمان عن أشياء يعرفانها وتهمهما معا. ذكرتا الأقارب والأصدقاء والصديقات والجارات والمعارف وهما تحلفان تارة بالله وطورا بالنبي محمد مشتركتين في الضحك والتنكيت بين جملة وأخرى. الزائرة تحدث عن الديار والباحثة تستزيدها من التفصيلات عن نساء الحي والمواشي والخياطة المصدورة والحمى المتفشية في البلد، ثم اتفقتا في الثناء على البقرة الحلوب، وهبط صوتهما إلى قرار الأسف لذكر البقرة الصغيرة المتوفاة في الأسبوع السابق. فقلت وقد أسفت لأسفهما: «أماتت تلك البقرة المسكينة؟»»
Bog aan la aqoon
أجابت باحثة البادية: «ماتت والله! وكنت أحبها كثير قوي.»
ولكن لا يغرننا هذا الانقلاب السريع من جليل المعاني إلى تافهها، ولا تخدعننا هذه الضحكة الشبيهة بضحكة فتيات المدارس. إن لهذه المرأة كما لكل من الأفراد النوابغ شخصيات متعددات تظهر كل منها في حينها. وهاك وصف ضحكتها في المقال الفرنساوي السابق ذكره:
إنها تضحك بسرعة وسهولة وفي صوتها رنين كرنين أصوات الأطفال، تضحك بكل قواها كمن يضحك من قلب لم يخالطه بعد معنى الكآبة ولم تنزل بساحته وطأة الهموم. وما أشد ما يسر السامع بهذه الضحكة المملوءة طيبة وذكاء، ولولا أن خيالات الفكر والكآبة تتمايل على جبهتها السمراء الجميلة لتساءل المرء أهو في حضرة امرأة ذاقت طعوم اللوعة والألم؟ ...
نعم إنها التاعت وتألمت. أقول ذلك وإن لم أرها يوما إلا بين مظاهر السعادة والهناء، بل لم أقابلها مرة إلا وهي صبيحة الوجه، طليقة المحيا، براقة العينين، والبسمة تلعب على شفتيها. لكن هذه كلها ستائر تنسدل على حركات الحياة الحقيقية حاجبة عن النواظر معانيها العميقة. وهل في وسع من ذاق مرارة الفكر وحلاوته أن يكون سعيدا بالمعنى الذي يقصده البشر؟ وإذا فرضنا أنه حاز السعادة على ذلك القياس المألوف، أتكفي هذه السعادة الاصطلاحية لحمايته من لهيب الألم النفسي؟
ولكن لا تنقمن على الألم؛ فهو مغذي الذكاء ومهذب الشعور، ومنبه الإدراك إلى معان جمة وأساليب فكرية كثيرة. إنما صاحب العواطف القوية شقي إذا ما ذكرنا أن هذه العواطف تعذبه في كل حين وتظل هامسة له بالشكوى حتى في أعذب ما يناله من لحظات السعادة النادرة. لكن هذا العذاب بعينه هو ممزق غشاء الجهل والأنانية عن بصر فريسته، وهو مستنزل الوحي على فؤاد نهشته براثنه حتى أدمته. هو مفجر ينابيع النهى. هو يعطي القلم قوة تبدع من الكلام سيوفا وبروقا، ويحبو اللسان بلاغة تمتلك القلب لأنها تخابره مباشرة بلا وسيط. وماذا عسى ينفع الحديث إن لم يكن مصدره القلب؟! وما هي قيمة الإصلاح إن لم يكن ناشئا عن إدراك تكون ليس في العقل وحده بل في العواطف المسحوقة وما تنبه إليه من احتياج كثير؟! ونظرة الكاتب إن لم يطل فيها خيال القلب المتوجع ليست إلا بالنظرة الباردة القاصرة التي لا تنفذ إلى ما وراء قشرة الظواهر، ويظل باب النفس، باب الحقيقة، أمامها مغلقا مجهولا!
إن مزاج باحثة البادية العصبي الصفراوي وجنسها النسائي، وقوة عواطفها وحدة ذكائها، كل ذلك كان مشتركا في تكوين طبيعتها السريعة الانفعال وواضعا فيها قابلية شديدة للألم واستعدادا كبيرا لمشاهدة الأشياء والحوادث من وراء غشاء قاتم. اقرأ كل ما كتبته تجد أنينا متواصلا يخترقه من أوله إلى آخره. وذلك الأنين الذي يكاد يكون ركزا ينقلب ساعة الوجع الشديد زئيرا وعويلا.
هذا المزاج النسائي وهذه الذاتية الأدبية، وهذه الكاتبة التي لم تدون أفكارها (على ما يظهر لي من لهجة فصولها) إلا تحت التأثير وفي ساعة الانفعال، هي ما أقصد درسه في هذا البحث الذي قسمته إلى أجزاء ستة هي: المرأة، والمسلمة، والمصرية، والكاتبة، والناقدة، والمصلحة؛ لأن في هذا التقسيم تسهيلا كبيرا لتفصيل الصفات الأدبية والمميزات الكتابية. وسنرى في الفصول الآتية كيف تبرز «الباحثة» قيمة في كل جزء من هذه الأجزاء. ولنا من كتاباتها ما يسند إليه الرأي ويستخرج منه التعليل، بل لنا منها ما يبعث بالأشعة إلى تلك الصفحات التي كتبت عن البيئة المصرية ولها ، فيمكننا أن نقدر باحثة البادية قدرها ونحب من وراء حجب الموت تلك الذاتية النادرة التي مرت في الحياة كحلم جميل.
أعترف بأني في حاجة إلى بعض المجاهدة لأتغلب على نفسي مبعدة من أمام ناظري خيالها البسام، ومحاولة نسيان المرأة كما عرفتها؛ كيلا أتأثر إلا بفكر الكاتبة المنشور على الصفحات البيضاء خطوطا سوداء. غير أني أعود فأقول إن التأثر بمعرفة المرء الشخصية ليس بالأمر المذموم، بل هو غزير الفائدة؛ لأن الذين يعرفون كاتبا خارج فصوله يستعينون بتلك المعرفة على قدر تلك الفصول، ويستخرجون من أحاديثه الشفاهية ما يؤيد أقواله الكتابية ويعززها. وإني لشاكرة «للمقتطف» اقتراحه، فهو الذي أوحى إلي كتابة ما أراه الآن علي واجبا مقدسا.
فلتحضر الروح العزيزة جلسات أكون فيها وحدي منفردة للبحث في آرائها واستخلاص درر معانيها، ولتقد يدها الروحية القادرة يدي الجسدية الحائرة لأثبت ما تريد إثباته، ولتنر حكمتها المكتسبة من ديار الخلود فكري الراغب في إدراك ما تعمدته من المقاصد، والساعي في تحديد غاية قصوى رمت إليها وهي ترى فيها كل الخير لإصلاح الشئون.
الفصل الثاني
Bog aan la aqoon
المرأة
إن في بعض الناس قوة لا تكيفها النعوت، ليست هي الذكاء؛ وإن كان الذكاء بدونها بلادة، ولا الجمال وإن عدم الجمال ميزة التأثير بفقدانها، ولا هي توازن تراكيب الجسم وتناسب الأعضاء ونضارة الصحة، وكل هذه تافهة إذا حرمت منها؛ لأنها العنصر الخفي المحيي الذي ينفعل به الأقوام ويخضعون لسطوته مريدين كانوا أم غير مريدين. لقد دعي ذلك العنصر مغنطيسيا وكهرباء، وجاذبية، ولطفا، وخفة دم، وخفة روح، و«نغاشة». ولكن جميع هذه المعاني ليست إلا أجزاء منه وتشترك معها في تأليفه معان أخرى شتى.
إنها لقوة عجيبة قد تحول ما هو في عرف البشر قباحة إلى جمال فتان؛ فهي بروق الذكاء المتألقة في العيون وسيال اللطف المتدفق في الابتسام، وأغنية الروح المتماوجة في نغمة الصوت. هي سحر الحركة وهي وسم الامتياز، وهي جلال الهيبة، وهي قداسة السكوت. هي المقياس السري الذي يكيف الإشارة ويوقع الخطى، والشرارة التي تضرم نار الفكر ، والنور الذي يجعل كثافة المادة شفافة . هي اليد العلوية التي إذا حلت لسان المتكلم كان بليغا، وإذا أشارت إلى الناظر بدت نظرته عميقة، وإذا قادت قلم الكاتب كانت كلماته شائقة فعالة يبقى صداها داويا في أعماق النفوس.
وكل من عرف باحثة البادية شخصيا؛ أي معرفة الجسد، أو معنويا؛ أي معرفة القلم، علم أنها كانت حائزة لهذه القوة التي حارت في تعريفها الأسماء. قد كان يكفي أن يعرفها المرء ليشعر بانجذاب إليها وليحبها. وقد كان يكفي أن يقرأ إحدى مقالاتها ليرغب في مطالعة كل ما كتبت منفعلا على رغم منه بالنفس الحار المالئ فصولها، حتى لقد يتبين توهج اللهيب المعنوي بين سواد الحروف. عبثا تبحث هنالك عن الكاتب الذي يعلو بك إلى قمم الإدراك والعرفان ويبتدع لك من روحه جناحين تطير بهما إلى الآفاق البعيدة. إن مؤلفة «النسائيات» قانعة بالغرفة التي تسكنها، والحي الذي تسير بين منازله، والبيئة التي هي جزء منها. وحينما تعثر على ما لا يرضيها - وما أقل ما يرضيها! - تضرب بمؤلفات الباحثين وشروح العلماء عرض الحائط، غير معتمدة إلا على ما تختبره بالمشاهدة. وسرعان ما تقابل بين ما تراه عند الغير وما يشبهه مما طرأ عليها أو قد يكون مهددا حياتها.
هي عين ترى ما هو كائن فتذكر ما يجب أن يكون. على أن هذه العين لا تنسى لحظة أنها عين امرأة؛ فما تكاد تلمح خيال اللوعة حتى يخترق القلب منها لهفا وتذوب ذراته وجعا. وإذا طرقت موضوعا تهتز له طبيعتها النسائية من أقصاها إلى أقصاها، سمعت منها هذه اللهجة الخلابة:
إنه لاسم فظيع (تعدد الزوجات أو الضرائر) تكاد أناملي تقف بالقلم عند كتابته؛ فهو عدو النساء الألد وشيطانهن الفرد؛ كم قد كسر قلبا وشوش لبا وهدم أسرا وجلب شرا! وكم من بريء ذهب ضحيته، وسجين كان أصل بليته، وإخوة لولاه لما تنافروا ولا تناثروا، ففرقهم أيدي سبا وأصبحوا تأكل الحزازات صدورهم، ويضمرون السوء بعضهم لبعض، يثأرون ولا ثأر بني وائل، وكانوا لولاه متفقين!
إنه لاسم فظيع ممتلئ وحشية وأنانية. كم أحرج رجلا وعلمه الكذب فأفسد عليه خلقه! وكم بذر مالا كان يعده البعض رزقه! وكم أحفظ قلب والد على ولد! وكم علم الوشاية والحسد. فإذا ما لهوت أيها الرجل بعرسك الجديد فتذكر وراءك بائسة تصعد الزفرات، يتساقط من مآقيها أمثال لؤلؤ عروسك، ولكنه صهرته نار الحزن فظهر سائلا، واخش الله في صغار يبكون لبكائها، علمتهم الحزن فاستعاروا يواقيت عروسك أعينا. أنت تقرع سمعك الطبول والمزامير وهم لا يسمعون إلا دق الحزن في طبول آذانهم وكانوا من قبل ذلك جذلين.
1
قد ينظم الشاعر هذه الزفرات أبياتا عامرة، وقد يطلعك العالم الاجتماعي على سلسلة علله ومعلولاته، مثبتا لك شر تعدد الزوجات. ولكن قلما تجد في قصيدة ذاك وأبحاث هذا تأثيرا يهز نفسك كما تفعل هذه السطور القلائل. ليس ما قرأته هنا بمنحدر من الفكر أو بناتج عن الملاحظة والتنقيب، بل هو اضطراب قلب جالت فيه المرارة مكونة أنات ما لبث القلم أن وقعهن على وفق ضربات القلب الخافق. إن هذه الفقرة لا يكتبها إلا قلم امرأة. •••
نحن الذين اعتدنا أن نرى في والدتنا سيدة البيت الدائمة وربة المنزل المطلقة لا نستطيع إدراك ما هي عليه طائفة كبيرة من أخواتنا من الشقاء تحت التهديد المتتابع. ولا يمكننا تفهم الانفعال الذليل المنحدر بهن إلى مهبط الخوف والقلق واضعا بين المرأة وبين تقديرها لكرامتها واعتبارها لنفسها هوة عميقة. وقد فطن أحد مقرظي «النسائيات» إلى عجز الأمم غير الإسلامية عن إدراك ذلك فلام الباحثة لوما لطيفا إذ قال:
Bog aan la aqoon
لقد صورت في ذلك الباب (باب الازدراء بالمرأة) المرأة في نظر الرجل اليوم على نحو ما كانت عليه في الجاهلية الأولى، وهذا أمر قلما طابق الواقع، وهل كان من حرج على السيدة أن توسع المسألة بحثا وأن ترقب اليوم الذي تترجم فيه مقالاتها إلى اللغات الأجنبية فتنشر أحكامها على هذه الأمة في العالم الأوروبي الذي يجهل معنى الغلو البديعي وأنه من المحسنات في اللغة العربية؛ حيث يعتقد الأوروبيون لا سيما نساؤهم أننا اليوم على ما كانت عليه جاهليتنا منذ أربعة عشر قرنا، وناهيك بما يحدث هذا القول في العالم المتحضر من الآراء وما يجلبه علينا بعد ذلك من البلاء.
2
غار حضرة المنتقد على سمعة قومه فأراد ألا تقال الحقيقة كما هي حتى ولا في فم من لا يبغي إلا الإصلاح. ولكن إذا تعمد كتم ما هو جار وسدل الحجاب على شقاء فئة كبرى فلا يكفي تنبيه الباحثة إلى ذلك، بل عليه أن يكسر جميع الأقلام الشاكية وأن يسكت زفرات القلوب المكلومة. عليه أن يثلج دماء الشبيبة الطامعة في توطيد دعائم الأسرة وحفظ كرامة المرأة. عليه أن ينتزع الأفئدة من الصدور لتكف عن الشعور بلوعة التقهقر العائلي. نعم ليكسر الأقلام، وليمزق الطروس، وليسل الألسنة ليجهل الغرب علة دامية في الشرق. أما باحثة البادية فلم تفكر قط في ذلك، بل أثبتت الواقع بصراحة ناشدة الإصلاح فقالت:
أي ازدراء للمرأة وعبث بحقوقها أشد من أن تخرج كلمة من فم الزوج ساعة غضبه فتفرق بينهما وتشتت ملتئمهما؟! وأي أمل لها في مستقبل مظلم لا تدري متى ينهار بنيانه؟ إن الدين لا يسمح بتعدد الزوجات وبالطلاق هكذا على غير شرط كما يفعل الآن رجالنا، وإنما جعل لهما شروطا وقيودا لو اتبعت لما أن منها النساء البائسات.
3
أين «الغلو البديعي» الذي يشكو منه هنا الأستاذ المنتقد؟! أين «الغلو البديعي» فيما تقرره الباحثة من ازدراء الشرقيين - مسلمين كانوا أم مسيحيين - بالبنت في جميع أدوار حياتها، وتفضيل الصبي عليها قبل ولادته وبعدها؟! وأين ذلك «الغلو» من مسألة الطلاق كما هو شائع الآن؟!
نعم إن سهولة الطلاق كادت تلغى من الطبقة العليا، ويندر وجودها بين من يغارون على سمعتهم ويفهمون معنى احترام الأسرة من الطبقة الوسطى. ولكن هؤلاء هم الأقلية. والطلاق شائع عند الأكثرية شيوعا كبيرا. وهاك ما كتبته باحثة البادية بعد الاختبار الشخصي:
وهذه البادية التي أقطن لا أبالغ إن قلت إن جميع نسائها جربن الضرائر. طالما سألت مرأة الحي هذا السؤال: «ترين هل تحبين زوجك الآن كما كنت تحبينه قبل زواجه من غيرك؟» فكان جواب كل من سألت سلبا. وسمعت عن أخريات أنهن يفضلن أن يرين نعش أزواجهن محمولا على الأعناق من أن يرينهم متزوجين بأخريات. فيا لله! أإلى هذا الحد يبلغ بغض المرأة للضرة!
4
إن هذا الموضوع يفتح باب الفصاحة عندها. وإذا قالت حينا بوجوب الطلاق فما ذلك إلا لأنها ترى فيه ما يخفف شقاء المرأة. قالت:
Bog aan la aqoon
والطلاق على مذهبي أسهل وقعا وأخف ألما من الضر. فالأول شقاء وحرية والثاني شقاء وتقييد. فإذا كان الشقاء واقعا على كل حال فلماذا تلتزم المرأة الصبر على الشدة؟! ترى بعينها ما يلهب قلبها ويدمي محجريها! ألا إن حزينا حرا خير من حزين أسير! وبعضهم يخادع المرأة الأولى بأن يجعلها حاكمة على البيت معها مفاتيح خزائنه. ولكن ماذا تفيد مفاتيح الخزائن والحكم على السمن والعسل؟! وأين هذه من مفاتيح القلوب وحب الزوج!
5
ألا يخيل إليك أن هذا الرجل الذي يدور على زوجاته وفي يده حزمة مفاتيح يفرقها لهو من رجال القمر أو سكان المريخ، أو على الأقل من أشباح الأقاصيص والأساطير؟ ولكن لا! إن ذلك مع الأسف واقع على مقربة منا. ومن أخواتنا من هن ذكيات الفؤاد جميلات الوجه والنفس لطيفات الشعور شريفات الميول، وعليهن أن يحتملنه وأن يصبرن على مضضه؛ لأنه أمر داخل في عادات قومهن!
إن باحثة البادية لا ينضب ينبوع إجادتها في هذا الموضوع، وما أكثر ما تصيب في نقده مستخرجة منه دروسا أخلاقية كقولها:
تعدد الزوجات مفسدة للرجل، مفسدة للمال، مفسدة للأخلاق، مفسدة للأولاد، مفسدة لقلوب النساء. والعاقل من تمكن من اكتساب قلوب الغير، فكيف بقلوب الأهل والعشراء!
6
ثم تشرح كلا من هذه شرحا وافيا في مقال هو من أجمل ما كتبت، بل هو في تقديري أتم فصولها وأبدعها. •••
على أن مطالبها لا تتوقف عند قلة الضرائر والتفرد في المنزل، بل هي تنكر زواج هذا العصر القائم على الطمع وحب المال، وتتطلع إلى تلاؤم الأذواق والتفاهم المعنوي. اقرأ هذا التهكم الممزوج بالغيظ:
إذا اجتمعوا (المصريون) بسائحة إفرنجية أو امرأة غربية تلطفوا لها كثيرا؛ فساعدوها في النزول من عربتها، وأمسكوا لها حقيبتها، ورفعوا الطرابيش (؟) إجلالا لها، في حين أن أحدهم يستنكف الركوب مع امرأته في عربة واحدة. وإذا سافرت أو انتقلت إلى محل آخر تركها ونفسها كأنه لم يكن صاحب الأفكار الحديثة القائل بمساعدة المرأة. وإذا ازدحمت الطرقات في موكب أو مولد مثلا رأيت الرجال يدوسون النساء ويضربونهن بالمناكب كأنه زحام الحشر. فهل هذا مبلغ احترام النساء عندنا؟
7
Bog aan la aqoon
كتبت هذه السطور منذ سنوات عشر. وإذا بقي هذا الوصف منطبقا في يومنا على جمهور من الرجال، فإن هناك عددا كبيرا من الطبقتين العليا والوسطى قد تغيرت منهم العادات تحت تأثير المدنية، وفعل السفر إلى أوروبا ومشهد الوحدة العائلية (ولو في الظاهر فقط) عند الغربيين. فصاروا يركبون مع زوجاتهم وبناتهم ويرافقونهن في السفر والنزهة. فكثيرا ما يرى الآن الرجل المصري في مركبة أو سيارة وبقربه زوجته ونقابها الأبيض الشفاف يضاعف جمالها الشرقي. ولا يندر ذلك على طريق الجيزة والأهرام وفي الجزيرة حيث يكثر الازدحام أيام الجمع والآحاد خصوصا، وفي الأعياد والمواسم الكبرى.
ولئن حملت كاتبتنا على الرجل بلا مجاملة فهي لا توفر المرأة، على أنها تعطف عليها غالبا حتى في خطئها وعثرتها. وتلوم الرجل لأنه القوي، ومنه تنتظر المساعدة والقدوة الحسنى. وبدلا من أن يستبد بسطوته فيصير سيدا رهيبا هي تريد أن يستسلم لعوامل الحنان فيصبح صديقا مؤدبا. قالت:
وفي اعتقادي أن الرجل لو خفف قليلا من كبريائه وعلم أن امرأته مساوية له في جميع الحقوق المشتركة وعاملها معاملة الند للند، أو على الأقل معاملة الوصي لليتيم لا معاملة السيد للعبد، لما رأى منها هذا العناد الذي يشكوه، ولأطاعته حبا به لا خوفا منه. فبنات العصر الحالي - حتى الجاهلات منهن - يفهمن الحياة أكثر من أمثالهن الغابرات؛ فأصبحن لا ترضيهن الكسوة والطعام فقط كإحدى خدم المنزل، ولكنهن يقدرن اليوم السعادة الزوجية أكثر من ذي قبل، ويعلمن أنه إذا لم يكن الحب أساس المعاشرة بين الزوجين فلا معنى للجمع بينهما.
8
الحمد لله! لقد آن لهن أن يفهمن ذلك ولو تجرعن في سبيله من العلقم كئوسا! أليس أفضل للمرء أن يسير نحو إدراك المعاني واستكناه الحياة ولو مخطئا ضالا من أن يظل مستكنا في ليل الذل، راضيا بقيوده، قانعا بجهله وهو يحسبه عقلا وطول أناة؟ إنما المرأة في موقف الاستعباد دون الجوامد حسا؛ لأن هذه تستعمل أقصى ما عندها من قابلية الحس، أما المرأة فإن لم تجاهد في تهذيب ما عندها من الملكات كانت قاتلة قواها بيدها. والقوة التي تتبعثر مؤدية إلى الفوضى إن لم تعرف لنفسها قانونا هي ذاتها إذا دربت كانت عنصر الارتقاء الرفيع. ولئن عز السير بانتظام بعد ليل العبودية الدامس لأن العين التي اعتادت الظلام يبهرها الضياء في بادئ الأمر، لكنها لا تلبث أن تألفه فتتمتع به لاجمة فوضاها مصلحة أحوالها. ليس هذا رأي الباحثة.
وسننظر فيما تشير به يوم ندرسها مصلحة. غير أنها لا تنفك عن العودة إلى شعور المرأة؛ ليعتد به الرجل ويجعله مقياسا لأعماله وأقواله. فقد تختلف عندها ألفاظ الشكوى غير أن معنى الأنين ثابت لا يتغير. كل شيء في نظرها أفضل من «إيلام نفس المرأة وتنغيص حياتها. يا لله! أليس لها من قلب يتأثر وشعور يحس وعواطف تثور!» •••
هي امرأة بكل معنى الكلمة؛ ومن دلائل ذلك أنها تبدي يوما خلاصة ما يجول في نفسها وتضطرب له جوانحها، ثم يثب فكرها في يوم آخر فتثبت عكس ما جاءت به قبلا على خط مستقيم. فهل هي مناقضة ذاتها؟ كلا! بل هي مفصحة عن نفس كثيرة النزعات جمة الميول، كأنما هي جوهرة ذات سطوح شتى، تلمع في كل منهن ألوان جذابة وأشعة فتانة، بينما عنصر الجوهرة يظل واحدا. رأيت أنها كثيرا ما تستعطف الرجل بلهجة المتوسل المتعمد تنبيه الإشفاق في نفسه. والآن اقرأ واضحك:
ولا يغيظني أكثر من أن يزعم الرجال أنهم يشفقون علينا. إننا لسنا محلا لإشفاقهم، إنما نحن أهل لاحترامهم. فليستبدلوا هذا بذاك. والإشفاق لا يتأتى إلا من سليم لعليل أو من جليل لحقير، فأي الصنفين يعتبروننا؟ تالله إنا لنأنف أن نكون أحد هذين.
بل قد يتأتى الإشفاق من صديق لصديق ومن محب لمحبوب، وحذف الرحمة من القلب يعني حذف الوداد معها في آن واحد؛ لأن الإشفاق من العناصر الجوهرية المؤلفة عاطفة الحب. والقلب الذي لا يشعر مع من يحب ولا يشفق عليه إلا قليلا إنما هو محب حبا ملؤه الجفاف والأنانية والبرد الزئبقي.
لماذا يشفق الرجل على المرأة؟ لأنها تقضي حياتها تائهة في لجج هوة لا يعرف هو منها إلا الشاطئ، وهي هوة العواطف. للرجل كبرياء الجولات الفكرية والأطماع المتزايدة والقوة البدنية. أما المرأة فمهما ارتقت وتناهت نشاطا ورغبة في تنسم ذرى الفكر ليست بقادرة على أن تستخرج من نفسها آثار ذلك الإرث الذي أودعتها إياه يد العصفور. وهو قوة الشعور، قوة الحب التي تخلق من الكائن الترابي العادي آلهة سامية جليلة.
Bog aan la aqoon
والمرأة القوية القادرة بإرثها النسائي ضعيفة جدا إزاء نفسها. وفي ذلك ما يستدعي الإشفاق والإجلال معا. وليس الإشفاق بقاتل الاحترام وملاشيه، بل قد يجتمعان متساندين متعاضدين. فكم تشفق المرأة الضعيفة على الرجل القوي! وكم تكون قوته ذاتها موضوع عطفها! وذلك لا يقلل من إعجابها به، بل كثيرا ما ينتبه حبها وينمو ساعة الشعور باحتياجه إلى مساعدتها. فلماذا لا ينمو كذلك حب الرجل تحت فعل الإشفاق، وكم كان الإشفاق مقدمة الحب، وهل في القلب المغلق في وجه الرحمة العذبة مكان للحب الأكيد؟!
ولكن لا يجفلن القارئ لهذه الوثبة الكلامية من الباحثة! إنه سيسمعها بعد حين عائدة إلى الابتهال. •••
لن أحاول وضع رسم معنوي لها؛ لأن كل رسم يظل واهي الخطوط إزاء الصورة التي جمعت فيها نفسها بيدها في السطور الآتية:
لماذا يا مي تدعين علي بالعذاب المعنوي؟ ألا إنما العذاب البدني أخف منه وطأة وأعفى أثرا. على أني جربت كليهما وذقت الأمرين معا. تقولين: «لأنه النار المقدسة.» نعم لقد أعطاني من القداسة مقدارا أكثر مما يجب لمثلي، حتى جعل البون بعيدا جدا بيني وبين هذا العالم غير القديس. تقولين: إنه «النار التي تطهر.» حقيقة. إنه تلقى وجداني بالتطهير منذ أن كان لي وجدان حتى صيره شفافا يظهر كل شيء ويتأثر لأقل شيء، وهذا فيه من الضنى ما فيه. تقررين أنه «النار التي تحيي.» نعم إنه أحيا روحي حتى أحرقها؛ لأنه كان كمصباح سيال كهربائه شديد، ولكن فتيلته لا تحتمل، «هو النار التي تلين.» هذا ما أبديت، ولكن ألا تعتقدين أن اللين يؤذي، خصوصا في هذه الدنيا التي كلها صدام وعراك، وأنه لا يفل الحديد إلا الحديد. إنه ألانني حتى صيرني ماء، وما أشد عبث الطبيعة والناس بالماء مع أنه أصل الحياة! وختمت حسن تعليلك لعذابي بقولك إنه «النار التي ترفع النفس على أجنحة اللهيب إلى سماء المعاني السامية.» نعم إنني الآن على أجنحة اللهيب، ولكني لم أصل بعد إلى السماء، وإذا وصلتها فلن يعود العالم يراني.
9
يومئذ حسبت هذه الجملة الأخيرة زهرة من زهرات البيان، ولم أكن أدري أنها نبوءة، فما تلقيتها إلا اليوم بالتصديق، فجاء تصديقي متأخرا! لقد وصلت الآن إلى «السماء» فماذا وجدت هنالك حيث احتجبت عن أبصار البشر متفرغة لاستقبال وجه البقاء؟ إنها أردفت الفقرة السابقة بهذه الجملة: «فهل يا ترى ستعجبني السماء؟ إني أشك في ذلك.»
أما أنا، فأعلم أنها هي التي كانت ذات قابلية للتكيف بقالب الأحوال المارة لم تكن راضية عن «الأرض»، وسخطها على هذه الكرة هو الذي جعلها تشك في هل «ستعجبها السماء»، لقد كانت كجميع ذوي المزاج العصبي، والعصبي الصفراوي، المستسلمين للكآبة، شديدة الشعور مع ميل إلى الحزن. وقد قوى ذلك فيها تأثير المطالعة، واعترفت به حيث قالت: «أول ما حفظت من الشعر المراثي وأولها رثاء الأندلس، وكنت في حداثتي أقرأ كثيرا ديوان المتنبي وأعجب بنفسه الكبيرة وأظنه هو الذي عداني في ذلك وسمم آرائي. رحمه الله، إني ألذ كثيرا بهذه العدوى.»
10
وقد تكون مدينة له كذلك ببعض الحكم المنشورة في فصولها، كهذه مثلا: «فالتجربة أرشد معلم، والليل والنهار كفيلان بتأديب من لا مؤدب له.»
11 •••
Bog aan la aqoon
من الأدوار الثلاثة المهمة التي تستغرق حياة المرأة؛ أي أدوار البنوة والزوجية والأمومة، كانت تحت تأثير الدور الثاني يوم كتبت «النسائيات »؛ لخروجها من دور البنوة الصرف. ولما لم ترزق ولدا ينال نصيبه من عنايتها فقد ظل اهتمامها محصورا في موقف الزوجة ومركزها في العائلة والأمة. نعم إنها بحثت في جميع أدوار المرأة المصرية من الطفولة إلى الشيخوخة، ولكنها كانت بالزوجية أكثر اهتماما منها بأي دور نسائي غيره. أما في أحاديثها فكانت تكثر من ذكر أبيها وقرينها؛ مما يدل على مقدار احترامها لهما وتعلقها بهما.
زرتها مرة وسيدة إنجليزية فوجدنا صالونها مملوءا بالزائرات المسلمات من والدات وفتيات، ودارت بينهن مناقشة فيما إذا وقع خلاف بين أب المرأة وزوجها فأيهما تتبع. فكثرت الأقوال واحتدم الجدال إلى أن قالت شابة عروس عام: «مات أبي منذ سنوات خمس فحزنت عليه حزنا شديدا، وما زلت أبكيه إلى يومي هذا. ولكن إذا مات زوجي أموت معه ولن أعيش بعده لحظة لأبكيه.» فاعترضت والدة هذه السيدة بلهجة جعلتني أظن أن بينها وبين صهرها سوء تفاهم في أمر من الأمور، وإنها تود استمالة ابنتها إليها. لكن باحثة البادية دخلت بينهما قائلة بلهجة جمعت بين الجد والمزاح: «مكثت في دار أبي عشرين سنة ولما تتم لي هذه المدة عند زوجي ...» فقاطعها هنا بعض الزائرات قائلات: «ما هذا؟ أتجعلين طول الإقامة ميزانا للحب!»
قلت إن باحثة البادية امرأة بكل معنى الكلمة؛ فهي لا تريد أن يعرف الجميع خفايا ضميرها، ولا تريد أن تجرح زائراتها. وقد كان لديها مع قلمها (الذي كان صريره يشبه أحيانا وخز حربة صغيرة غمست في مداد إنما هو مزيج من مرارة ولهيب) سلاح آخر نسائي محض، وهو الضحك، وما يتقدمه من نظرات لطيفات المعاني، وما ينتج عنه من إرضاء الجميع دون إغضاب أحد، والتخلص من المواقف الحرجة بمهارة وبساطة.
لو قالت: «تتبع المرأة زوجها» لغضبت الأمهات. ولو قالت: «تتبع والدها» لسخط الأخريات. فلم تقل هذا ولا ذاك، بل ضحكت في وسط الضوضاء والاحتجاج والاعتراض ضحكة فضية كرنين البلور على البلور، أعقبتها بنكتة صغيرة أقفلت باب الموضوع وأرغمت جميع الحاضرات على الاشتراك في الضحك. وما كان أجمل ضحكة ثغرها! بينا شفتاها القرمزيتان تتلامسان بألفاظ مصرية التركيب واللهجة والمعنى!
الفصل الثالث
المسلمة
لئن أجملت هنا ما فصلته في النبذة السابقة من حيث إن باحثة البادية «امرأة» في جميع ما كتبت فيحسن بي الآن المجاهرة بأنها إزاء صفاتها الأخرى «مسلمة» قبل كل شيء. وأي مسلمة هي! مسلمة شغوف بدينها، تغار عليه غيرة محب مدنف يقدس الاسم المحبوب ويرى في كل حرف من حروفه عالم بهاء وعظمة ومجد لا يفنى. إن إسلامها لظاهر في كتاباتها ظهورا جليا، وأقدر أنها كانت معروفة بالورع بين أخواتها المسلمات. وقد ذكرت ذلك الآنسة نبوية موسى - التي كانت رفيقتها في المدرسة - في خطبة بعثت بها إلى لجنة التأبين وألقيت في الاحتفال المهيب الذي أقامه لها رجال مصر.
هي مسلمة إلى حد إدخال الدين في كل أمر من الأمور سياسيا كان أو اجتماعيا أو أخلاقيا، حتى مسائل الأزياء والزينة والاصطلاحات والأحاديث الثانوية. ومما قالته في أسلوب المحادثة بين الزوجين:
هناك أخرى تقول لزوجها حضرتك وسعادتك، فما هذا التكلف البارد! إننا بتسميتنا فلانا صاحب العزة وتلقيبنا أحد الملوك بصاحب الجلالة لنكفر ونلحد. فما صاحب العزة وذو الجلالة إلا الله الواحد القهار. ولو أنصف كتابنا لحذفوا تلك الألفاظ الدالة على الشرك في كتاباتهم وأقوالهم.
1
Bog aan la aqoon
إذا ما وقفت على بدعة مستحدثة ورأت أمرا جديدا سارعت إلى استجواب نفسها هل في ذلك ما يغاير الأوامر الدينية. وإذا ساد نظام بين القوم واستحكمت روابطه بفعل المران والاستعمال والملاءمة لشروط الزمان والمكان دون أن يكون مقررا في نصوص الشريعة السمحاء فهي لا تحفل به كثيرا، حتى إذا ما أرغمت على قبوله قبلت منه أقل مظاهره ابتعادا عن الفكرة الدينية. ويا ويلمها عادة لا تروق لها! إنها تثور ثائر غضبها وتتسلح باسم الدين لمكافحتها، ويا لحدة سنان يراعها الذي يصبح في تلك الساعة حربة وخازة! قالت منتقدة الذين يعلمون بناتهم الرقص والتمثيل.
لا أعلم عند الإفرنجية عادة تساوي «الزار» إلا مخاصرة الرجال في الرقص، وما يتبع تلك العادة من التهتك والتصنع والميل عن جادة الصواب، وما ينشأ عن إباحتها المطلقة بلا قيد ولا وازع، من الضرر البليغ والإخلال بالشرف. وأدهى من ذلك أن ينتشر بينهن مذهب حرية الاعتقاد، وهو مذهب من لا يصدق بالله ولا باليوم الآخر، فيزعمن أنهن يجتنبن الرذائل بمحض إرادتهن وتربيتهن. ولكن هل إذا منعت الفضيلة امرأة عن إتيان ما لا يرضي فهل يصح أن تطبق هذه النظرية على كل امرأة؟ إن النفس لأمارة بالسوء، ولقد تقدم على كثير من الموبقات لولا الضمير الحي، وهو ثمرة الوازع الديني، أفلا يعقلون؟! أرانا لا نتمسك شديدا بديننا الحنيف وهذا بدعة وعدوة أتتنا من الغرب. أو كلما رأينا إنسانا يفعل شيئا حاكيناه، وإن كان في ذلك خسارة ديننا ودنيانا معا؟
إن ذلك (أي الرقص) مناف للدين الإسلامي، هادم للفضيلة، مدخل لضار العادات بيننا، فعلينا أن نحاربه ما استطعنا، ونظهر احتقارنا لمن تفعله من المسلمات القليلات، اللاتي إذا شجعناهن بسكوتنا لا يلبثن أن يعدين الغير منه.
2
لست أدري هل كثر العاملات بهذا الرأي؟ إني شهدت من الهوانم كثيرات ممن أتقن خطوات «البولكا» و«المازركا» و«الفالس» و«الطانجو» يراقصن صاحباتهن في اجتماعاتهن اللطيفات. فأي مانع يمنعهن؟ وأي «عار» على امرأة في مراقصة زوجها أو أخيها في المجالس العائلية، أو مراقصة صديقاتها في اجتماعات نسائية؟ إن فن الرقص - شرقيا كان أم غربيا - رياضة مفيدة للصحة إذا استعمل باعتدال، فضلا عن إنه يمرن أعضاء الجسم فيكسبها لينا ونشاطا وخفة ويحفظها من النشوفة والتصلب، كما أنه درس نافع جدا لتحديد الحركة وتسهيل انسجامها، وهو أفضل مقياس لها. ويجوز مثل هذا القول في التمثيل. إني عرفت سيدات مثلن في اجتماعات نسائية وسهرات عائلية، لم أرهن رأي العين ولكن قلن لي إنهن يفعلن. ومنهن واحدة تعجب بالباحثة إعجابا شديدا، بل هي من أعز صديقاتها اللاتي يحببنها حبا جما، وقد اجتمعت بها للمرة الأولى في صالون باحثة البادية نفسها. زرت هذه السيدة منذ عامين أو ثلاثة وأخذنا نتحدث عن بعض الروايات التمثيلية، فذكرت رواية مثنية على حسن تأليفها وبراعة تنسيقها، ثم قالت: «لقد تقاسمنا أدوارها في الأسبوع الماضي، ونحن منهمكات في هذه الأيام بدرسها؛ لأننا سنمثلها أنا وصديقاتي أمام طائفة من معارفنا وزائراتنا.» كانت الباحثة في الفيوم يومئذ إلا أنها كانت تراسل صديقتها هذه كل أسبوع تقريبا، ولا أدري هل علمت بما كان يشغل صاحباتها مما أنكرت إتيانه بالحدة التي تعلم!
أما مسألة «الشرف» فيصعب حلها جدا؛ لأنها من الكلمات التي يستعملها البشر غالبا في غير محلها، ولها رنين يقرع السمع كالأجراس، ولكنها في الحقيقة أمر نسبي، كجميع المعاني البشرية. الشرف في اعتقادي أسمى وأنقى كثيرا من أن يتلوث بالغبار الذي تثيره خطوات «الفالس»، بل هو أرق لطفا وأصفى جوهرا من أن تدانيه يد الإنسان. على أني أفهم أن الباحثة لم تقصد الرقص على الإطلاق؛ لأنها لم تذكر الرقص الشرقي، بل هي عنت مراقصة الرجال للنساء على الطريقة الإفرنجية.
والآن أشعر بأني جالبة على نفسي حكما شديدا من أبناء الطرز الحديث لما أنا مجاهرة به. إنهم ينحنون أمام المرأة المحجوبة ولكنهم لن يكونوا لي من الراحمين. أنا فتاة سافرة تسري علي عادات مجتمع هو أقرب إلى «التفرنج» منه إلى أي نزعة أخرى. وقد تعلمت الرقص واشتركت مع قومي في السهرات الراقصات ولم أر فيها شيئا يصح أن يسمى «إخلالا بالشرف» ولكني ... ها قد وصلت إلى الخطوة الرهيبة ... ولكني لا أريد للمرأة اختلاطا كبيرا بالغرباء، وأكاد أقول إني لا أستحسن مراقصة الرجال للنساء.
أما الآن وقد فهت بهذا الإلحاد الاجتماعي الهائل فقد «نمرني» أهل العصر وحشروني في فصيلة المتقهقرين والرجعيين. اللهم لك الحمد والشكر على كل حال!
وإذا نادت بالإصلاح العائلي استشهدت بالله متهددة الظالمين وقالت: «ألا فلينتبه الرجال وليتقوا الله في نسائهم، وليعلموا أن التقوى مطلوبة في السر والعلن وأن الله يرى» ... «يا قوم تداركوا الأمر ... وسنوا سنة صالحة لأبنائكم وبناتكم من بعدكم يكن لكم آخرها إلى يوم الدين، ولله عاقبة الأمور.»
3
Bog aan la aqoon
وقالت في إصلاح طريقة الزواج ووجوب اجتماع الخطيبين قبل عقد الخطبة استنادا إلى ما كان يتم وقوعه في الماضي :
يرى أكثر عقلاء الأمة ألا بد للخطيبين من الاجتماع والتكلم قبل الزواج، وهو رأي سديد لم يكن النبي
صلى الله عليه وسلم
والصحابة يعملون غيره.
مما يجعل مسألة الزواج عندنا (أي المسلمين) هينة لينة إباحة الدين الحنيف الطلاق وتعدد الزوجات. ولكن حاشا أن يكون قصد الشارع ما نراه الآن من الفوضى في أدق الروابط الاجتماعية ومن نقض عهود الأسر وقلب نظاماتها. فإن الأديان لم تخلق لجلب البؤس وإنما خلقت لإسعاد البشر. «طريقة العرب على عهد النبي
صلى الله عليه وسلم
وما بعده في أمور الخطبة والزواج طريقة شريفة معقولة إذ لم يكن الحجاب حينذاك كما هو الآن. وإني أجاهر بأن حجابنا مقلوب ونظام اجتماعنا فاسد أشد الفساد لا يصلح ولن يصلح أن تتبعه أمة متمدنة.»
4
وإذا قررت بعض مساوئ الرجل وأشارت بأمر عمدت إلى وصية الشارع العربي كقولها:
اللهم إن رجلا هذه أخلاقه مع زوجه وهذا مبلغ جشعه لخليق بأن يفارق، ولكن المداراة مما أوصى به النبي
Bog aan la aqoon
صلى الله عليه وسلم . فلتداره ما أمكن فذلك خير لهما من الخلاف.
5
وقد قالت بتعليم المرأة أصول الدين مرة بعد مرة، فصرحت بمطالبها في الخطبة الأولى التي ألقتها في نادي حزب الأمة ثم جعلتها أساسا لاقتراحات قدمتها إلى المؤتمر الإسلامي المصري، وخلاصتها وجوب تعليم البنات «تعاليم القرآن والسنة الصحيحة»، وأن يباح للنساء الذهاب إلى المسجد لسماع الوعظ والخطب والإرشادات الدينية وحضور ما يقام من الصلوات والاحتفالات كنساء الأديان الأخرى من مسيحية ويهودية. وكان لهذه الاقتراحات صدى استحسان عند الجميع حتى عند أرقى المسلمين فكرا وأوفرهم علما. فكتب الأستاذ لطفي السيد بك في مقدمة «النسائيات» مستصوبا مؤيدا فقال: «ولو صح نظري لكانت قاعدة بحثها في تحرير المرأة قاعدة الاعتدال ورائدها في ذلك الشرع الإسلامي.» إلى أن قال: «وقصارى القول إن باحثة البادية قد أجادت كل الإجادة في أن جعلت أساس بحثها تقرير المساواة لا على جهة الإطلاق بل في حدود الاعتدال والدين.»
ووردت الأبيات التالية في ردها على قصيدة شوقي بك المشهورة:
أما السفور فحكمه
في الشرع ليس بمعضل
ذهب الأئمة فيه بي
ن محرم ومحلل
ويجوز بالإجماع من
هم عند قصد تأهل
Bog aan la aqoon
ليس النقاب هو الحجا
ب فقصري أو طولي
فإذا جهلت الفرق بي
نهما فدونك فاسألي
من بعد أقوال الأئم
ة لا مجال لمقولي
لا أبتغي غير الفضي
لة للنساء فأجملي
وإن لها في مدارس الراهبات رأيا صارما جائرا. قالت:
وهذه الفئة الجاهلة الدعية في العلم هي ولا شك فئة خريجات مدارس الراهبات وكثير من المدارس الأهلية الأخرى. وحسبك وقوفا على مبلغ هؤلاء أن تسألهن سؤالا بسيطا عن بعض ما يلقينه على مسامعك مثل الببغاء فلا يحرن جوابا. ثم إن إحداهن لتسمعك تاريخ فرنسا ولا تكاد تأخذ نفسها من سرعة الإلقاء، وإذا سألتها عن عمر بن الخطاب أو صلاح الدين الأيوبي أو محمد الفاتح وأضرابهم من حماة الإسلام قالت لك لا أدري ... ومدارس البنات كلها في مصر - خلا مدارس الحكومة الثلاث - لا أثر فيها للنظام وليس فيها إلا تظاهر بالعلم ورياء وهي في اعتقادي لا تصلح مطلقا لتربية البنات المصريات. وبالجملة أقول إن أحسن مدارس البنات في مصر هي مدارس الحكومة أخلاقا وعلما، على أنها لا تزال تقبل الإصلاح والرقي.
Bog aan la aqoon
6
حسبنا شهادة لمدارس الحكومة أنها أنجبت باحثة البادية ومن حذون حذوها. أما المدارس الأهلية التي قالت فيها الباحثة ما قالت فأنا لا أعرفها إلا بالاسم، فلا يمكنني تولي الدفاع عنها. ولكني أعرف بعض مدارس الراهبات حق المعرفة، وإني لأجاهر بأن انتقاد الباحثة لا ينطبق عليها. وقد تكون الباحثة عثرت صدفة على فتيات «تخرجن في مدارس الراهبات وهن لا يعرفن إلا العزف على البيانو والرطانة ولسن من العلم والتهذيب في شيء، وهن على جهلهن هذا شامخات بأنفهن نحو السماء فيقضين وقتهن بين حديث خرافة وخروج في الشوارع وهن على العموم أكثر النساء إسرافا وتبذيرا فضلا عن البهرجة وقلة الحياء»، وكن سببا في تكوين حكمها هذا الشديد. ولكن إذا وجد مثل هؤلاء بين خريجات مدارس الراهبات فلا تعدم أضرابهن المدارس الأخرى، ويوجد مثلهن بين اللائي لم يتخرجن إلا في منازل آبائهن على يد أمهر الأساتذة وأفضل المؤدبين. كذلك أنجبت مدارس الراهبات نساء كن سعادة ذويهن ونور محيطهن، كما أنه قد يرى من أفضل النساء في طائفة لم تتلقن العلم إلا من ذكائها الفطري ولم تتناول قواعد التهذيب إلا من الوجدان السليم.
إن تأثير المدرسة وتأثير الوسط عظيم جدا ولكنه ليس له القدرة المطلقة. والأهمية الكبرى إنما هي في قابلية التلميذ واستعداده. لقد قال أرسطو مرة: «إن عقل الطفل كالشمع اللين يكيفه المعلم كيفما أراد.» فاقتبس هذه النظرية قوم من علماء الأخلاق وجعلوها أساسا لتعاليمهم، لكن ما أكثر الذين قاموا يناقشونهم ويدحضون أقوالهم من المعارضين! ومن البديهي أن المدرسة لو كانت ذات فعل مطلق شامل متماثل لما رأينا الفروق الكبيرة بين طلبة المعهد الواحد والاختلاف الجوهري بين تلامذة الفرقة الواحدة المستقين العلم من أستاذ واحد المنفعلين بتأثير مؤدب واحد. ترى لماذا لم تخرج لنا تلك المدرسة العزيزة وذلك القسم الدراسي المبارك إلا «باحثة البادية» واحدة لا ثانية لها؟
لست بمدافعة عن مدارس الراهبات لمجرد الدفاع، ولكني تربيت فيها سنوات أربع فاختبرتها بنفسي، كما أني اختبرتها في غيري من بنات عمي وقريباتي ومعارفي اللاتي تهذبن وتعلمن فيها. لم أجد فيها العيوب المذكورة في «النسائيات»، بل ما يناقضها على خط مستقيم؛ منها الترفع الكثير عن الدنايا، والجري وراء مثل أعلى قلما يتراءى في سبل الحياة العادية، ورفع النفس إلى ما وراء المرئيات، والإكثار من الصلاة والتطرف في العبادة مما يؤهل الفتاة لاعتناق الحياة الرهبانية فتظل مدة بعد رجوعها إلى البيت حائرة في دوائر الهيئة الاجتماعية، غريبة بين هؤلاء البشر الذين يجهلونها ولا تفهمهم. وعلى رغم تلك العيوب ما زال الآباء يتهافتون على هذه المدارس، ورجال من أفضل المصريين حصافة وأوسعهم علما يأتمنونها على بناتهم واثقين بأن نوع التربية الذي ينلنه بين تلك الجدران الصامتة لهو من خير الأساليب التهذيبية.
أما النقص الشائن في إهمال تدريس التاريخ الإسلامي والتواريخ الشرقية الأخرى وإتقان اللغة العربية فإن اللوم فيه عائد على الأهل؛ إذ أي شيء يمنعهم عن تعليم ما يريدون لبناتهم بعد خروجهن من المدرسة؟! وذلك يسهل عليهن يومئذ لأنهن يدرسن مختارات لا مرغمات، فيجدن لذة تخلو منها أكثر الدروس المدرسية الجبرية، ويقفن على كثير في وقت قليل. إن الأجانب يهبطون ديارنا لترويج لغتهم ونشر علومهم وتاريخهم. وفي معرفتنا للغاتهم وآدابهم وتاريخهم وعلومهم سلاح في يدنا وقوة نجاهد بها في ميدان المسابقة المفتوح لنا ولهم، وهم فيه غالبا - غالبا فقط! - فائزون. وهل يكتفي المرء في هذا العصر بكونه حافظا لتاريخ الشرق مستظهرا متون سيبويه وحواشي الصبان إن لم يكن له إلمام بمعارف الغير مع إتقان لغة أجنبية واحدة على الأقل؟ إن ناموس تنازع البقاء ليقضي علينا بذلك، وإن أحكامه لنافذة سواء شئنا أم لم نشأ. فإن لم نسر بحكمة مع النظام سرنا جهلا ضده. ومن ذا الذي يستطيع معاندة ما لا يعاند ومغالبة ما لا يغالب؟! فإن لم نجر مع دولاب الحياة انقلب علينا فكنا فريسته المنسحقة تحته.
لندرسن علوم الأجانب من جهة ولندرسن تواريخنا من جهة أخرى نكن جامعين بين المعرفتين أقوياء بالقوتين. ومن لم يكن مهتما بشئونه فكيف يتوقع من الغير بأحواله اهتماما؟! •••
سيرى فريق أن باحثة البادية كانت متعصبة، ذلك مما لا ريب فيه، وكيف ينتظر أن تكون غير متعصبة؟! أليست بشرا؟! أوليس التعصب من أشد العواطف ملاصقة للنفس؟! حدثوني عن تسامح من لم يكن متعصبا لأضحك قليلا! من هذا الشخص؟ ومن أي مذنب مجهول في فيافي الفضاء قد هبط علينا؟ العالم في مكتبه، والمحسن في كرمه، والشاعر في عزلته، والفيلسوف في تأملاته، كل من هؤلاء متعصب تعصبا يتفاقم شره كلما كان خفيا تحت مظاهر الحلم والتساهل.
وإني لأرى استعمال المفرد في التعصب سخيفا، بل هناك تعصبات يجوز عليها جمع الجمع وجموع الجموع إلى ما لا نهاية له. فالتعصب الجنسي والقومي والعلمي والفلسفي والأدبي والاجتماعي والحزبي والفردي، وتعصبات أخرى لا أسماء لها تسير موكبا هائلا سريا لا يبرز فيه إلا التعصب الذي ننعته بالديني. قال قائل: إن التاريخ سلسلة حروب، وإن الشعب الذي لا حروب له لا تاريخ له. ولو قلنا إن الحروب إجمالا وتفصيلا ليست إلا حكاية تعصب البشر لكنا معبرين عن الفكرة نفسها بكلمات هن أقرب إلى معنى الصدق.
كثيرا ما أسائل نفسي: ترى هل يهدأ يوما ثائر العواطف المتطرفة وتتوازن قوى الإنصاف فيرتفع المرء بإدراكه إلى أفق يشرف منه على جميع النزعات الإنسانية؟ ترى هل يفطن البشر يوما أن كلا من الميول وكلا من الأديان ينطبق دون غيره على مطالب فئة واحتياجاتهم، فلا تطمئن منهم النفوس إلا بالتمشي مع نصوصها؟ لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، فمتى يذكرون؟ وما يسمونه عند الآخرين تعصبا يدعى عندهم غيرة قومية ونخوة وحمية، فمتى يذعنون؟ ومتى يقولون مع الشاعر:
هذي المذاهب كلها دين الهدى
Bog aan la aqoon