وممن أملى مجالس في بغداد يمكن أن تنتظم في هذا الباب أبو السعادات هبة الله بن علي الحسني المعروف بابن الشجري البغدادي نقيب الطالبيين في الكرخ المتوفى سنة 542، فإنه أملى أربعة وثمانين مجلسا اشتملت على فوائد جمة من فنون الأدب.
وكانوا يعتبرون الغناء من فنون الأدب. قال ابن خلدون: «كان الغناء في الصدر الأول من أجزاء هذا الفن - الأدب - وكان الكتاب والفضلاء من الخواص في الدولة العباسية يأخذون أنفسهم به حرصا على تحصيل أساليب الشعر وفنونه، فلم يكن انتحاله قادحا في العدالة والمروءة.» ا.ه.
وقد ألف عبيد الله بن طاهر، المتوفى سنة 289، كتابا أسماه «الآداب الرفيعة»، جمع فيه أصول النغم وعلل الأغاني وآداب المنادمة إلى غير ذلك، وهذا الاصطلاح يقرب جدا من الاصطلاح الذي وضعه المعاصرون للنحت والتصوير وما إليهما باسم «الفنون الجميلة».
الشعر والشعراء
لم يؤثر عن أمة من الأمم ما أثر عن العرب من كثرة الشعر والشعراء، حتى إنهم اتخذوه ديوانا لمآثرهم ومفاخرهم وسائر مجرياتهم؛ فهو بحق ديوان أخبارهم، ومستودع أفكارهم، وخزانة آثارهم، وإليه المرجع في تقلب أطوارهم في جاهليتهم وإسلامهم. وكان الشاعر بينهم موضع التجلة والإكبار؛ لأنه مدره العشيرة وحامي ذمارها والمنافح دون أحسابها.
ولما أصبحت بغداد حاضرة الخلافة، تدفق إليها الشعراء من كل فج ليشهدوا منافع لهم، وليعرضوا ما تجود به قرائحهم من الأعلاق النفيسة في قصور خلفائها وأمرائها وكبرائها، فوجدوا مجال القول ذا سعة، فقالوا: وأجزل لهم رجال الدولة وأولو النعمة العطايا فأكثروا وأجادوا، حتى قيل: إنه لم يجتمع بباب خليفة من خلفاء الإسلام من الشعراء ما اجتمع في باب الرشيد، وإذا أنت تصفحت تاريخ بغداد للخطيب ملكك العجب؛ لكثرة ما يمر فيه أمام نظرك من الشعراء الذين أنبتتهم بغداد أو الذين طرءوا عليها من الأطراف، حتى إنك لا تكاد تسمع بشاعر نابه في المشرق إلا وجدت له ذكرا بين شعراء بغداد. ولو حاول مؤرخ أن يستقصيهم ويلم بأخبارهم لأخرج للناس كتابا في عدة مجلدات، وقد حاول بعض المؤرخين الاستقصاء فأعياه. وأحصى الثعالبي في يتيمته العدد العديد من شعراء بغداد الذين عاصروه، وذكر بعض المؤرخين أن بضع مئات من الشعراء تمالئوا على هجو المتنبي عندما قدم بغداد في طريقه إلى خراسان.
فإذا كانت بغداد في أواسط العصر الرابع تضم بضع مئات من الشعراء الذين يعادون المتنبي، فكم كان عدد شعرائها الذين يوالونه أو الذين على الحياد؟ وليس المهم في هذا الباب كثرة الشعراء وكثرة ما نظموا، وإنما المهم الحسنات التي أسدوها على هذا الفن والابتداعات التي ابتدعوها فيه. والناقد البصير مضطر إلى الاعتراف بما لشعراء بغداد النابتين فيها والطارئين عليها من الفضل على الشعر في تنويع أغراضه وابتكار البارع من معانيه وأخيلته، ونشر الآراء الحرة والمذاهب الجديدة والبراعة في رسم الصور المبتكرة في الأوصاف وغيرها، كما أنه عليهم تقع تبعة إذاعة الزندقة والتشكيك في العقائد والاسترسال وراء الأهواء، وهم أول من فتح باب الغزل في المذكر أو - على الأقل - هم أول من وسع هذا الباب، وأغرقوا فيه أيما إغراق. كما أنهم أول من وسع باب المجون، وغالوا فيه غلوا تستنكره الطباع السليمة والنفوس المستقيمة، ولم يكترثوا لما يتقيد به المؤمنون من كرائم الخلال ومحامد الخصال. وأكثر المندفعين في هذه المسالك من الموالي الذين لم يملأ الإيمان صدورهم، ولا ارتاحت إلى الدين عقولهم، من أمثال: بشار بن برد، وحماد عجرد، وحسين بن الضحاك، وأبي دلامة. نعم؛ لا ينكر أن في أبناء العرب فئة شايعت هؤلاء الموالي في ركوب هذه السبل، بل سبقتهم وأربت عليهم، منهم: الحسن بن هانئ الحكمي، ودعبل الخزاعي، وابن سكرة الهاشمي. ويمكن إجمال ما جد في الشعر ببغداد بما يلي: (1)
الركون إلى الأنيس من الألفاظ وهجر الغريب والحوشي منها، فبعد أن كان ابن الجاهلية يستسيغ قول القائل:
وليلة نحس يصطلي القوس ربها
وأقطعه اللاتي بها يتنبل
Bog aan la aqoon