محمد بن إسماعيل البخاري المتوفى سنة 256، صاحب الصحيح الشهير، حكوا أنه زار بغداد، فاجتمع عليه أصحاب الحديث من أهلها، فعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها ... ثم كلما عرض عليه واحد منها، قال: لا أعرفه، فلما كملت المائة اندفع يعيد كل حديث إلى سنده، وكل سند إلى متنه، فأقر له البغداديون بالحفظ. وكان من عادة البغداديين التلطف باختبار الطارئين عليهم من العلماء، وممن تردد إلى بغداد من كبار المحدثين مسلم بن الحجاج النيسابوري المتوفى سنة 261، ومحمد بن يزيد بن ماجه المتوفى سنة 213، وأبو داود سليمان بن الأشعث المتوفى سنة 275، وأنجبت بغداد من عظماء المحدثين وقدمائهم: الإمام أحمد بن حنبل، وابنه عبد الله، وأبا الحسن علي بن عمر الدارقطني صاحب كتاب السنن المتوفى سنة 385، والخطيب البغدادي. ومن تصفح تاريخه وقف على المئات من أئمة هذا الشأن الذين أنبتتهم بغداد، أو هاجروا إليها وجعلوها دار إقامتهم أو موضع زيارتهم.
ومن الواضح أن رجال الحديث بعد أئمة الحفاظ الأولين قد وجهوا جل عنايتهم إلى كتابة المصنفات الجامعة والمختصرة متوخين حسن التبويب وجمال التفصيل والترتيب، مع التمييز بين صحيح الآثار وسقيمها؛ ولذلك لم يكن المتأخرون في هذا الباب إلا عيالا على المتقدمين.
الفقه:
أنشئت بغداد، وفقهاء الإسلام فريقان: فريق جعل جل اعتماده في استنباط الأحكام الشرعية الفرعية على الكتاب والسنة النبوية والآثار المروية عن الصحابة، وفريق آخر حكم - مع ذلك - الرأي والقياس. وجل فقهاء الحجاز من الفريق الأول، وإمامهم في ذلك مالك بن أنس، وجل فقهاء العراق من الفريق الثاني، وإمامهم في ذلك أبو حنيفة النعمان بن ثابت، وهو وإن كان كوفي المنبت، فإنه اتخذ بغداد دار إقامته الآخرة، فكان عنوان مفاخرها وغرة مآثرها، وكان في جملة حسناته تلميذاه العظيمان قاضي القضاة أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري المتوفى سنة 182 صاحب كتاب «الخراج»، ومحمد بن الحسن الشيباني المتوفى سنة 189، وإليهما يرجع الفضل الأول في تدوين الفقه الحنفي وترصين قواعده. وزار الإمام محمد بن إدريس الشافعي بغداد مرتين إحداهما سنة 195 والثانية سنة 198، واجتمع بعظماء فقهائها، وفيها أملى مذهبه القديم، ولما فارقها تطور مذهبه بعض الشيء بسبب ما اطلع عليه في بغداد من الآراء، ويقال لمذهبه بعد رجوعه من بغداد: «الجديد». وممن لقي الشافعي في بغداد من عظماء الفقهاء الإمام أحمد بن حنبل، وقد تلقحت آراؤه بآرائه، فتطور مذهب ابن حنبل بعض التطور، وكان معظم البغداديين على مذهبه، ثم كثر بينهم الشافعية والحنفية. ومن مشاهير فقهاء الشافعية فيها أبو حامد الإسفرايني المتوفى سنة 406، كانت حلقته في الكرخ تضم زهاء 700 متفقه، وأقضى القضاة علي بن محمد الماوردي المتوفى سنة 450، صاحب الأحكام السلطانية والحاوي، في بضعة عشر مجلدا، وأبو إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي المتوفى سنة 476، وكانت إليه رياسة المدرسة النظامية، وكتبه في المذهب أشهر من أن تذكر. ومن أكابر فقهاء الحنفية البغداديين: أبو الحسن أحمد بن محمد القدوري المتوفى سنة 428، ومن كتبه التجريد، ويشتمل على الخلاف بين الشافعي وأبي حنيفة وأصحابه، وهو بديع في بابه.
ولما زار ابن جبير بغداد بهره فقهاؤها، فأعجب بكثرتهم وسعة معارفهم، وفي بغداد أزهر الفقه الجعفري الذي يرجع بأصوله إلى الإمام جعفر الصادق بن محمد الباقر رضي الله عنه.
وبالجملة، فإن للفقه في بغداد المقام الأول من بين سائر العلوم، ولم يزل هذا السر إلى عهدنا هذا؛ فإن أول مدرسة عالية أنشئت في بغداد على النمط الحديث مدرسة الحقوق، التي تعتمد في معظم مادتها على الفقه الإسلامي. وقد أسمى فيلسوف المعرة محلة الكرخ أو بغداد «محلة الفقهاء»:
بمحلة الفقهاء لا يعشو الفتى
ناري ولا تنضي المطي عزائمي
علم الكلام:
ويسمى علم العقائد، وعلم أصول الدين أيضا. كان السلف الصالح من الصحابة والتابعين يستدلون على عقائدهم بظاهر الكتاب والسنة، وإذا تعذر عليهم فهم المتشابهة منهما آمنوا بظاهره، ووكلوا أمر الباطن إلى الله تعالى مع التنزيه الأكمل للذات الإلهية عن كل ما يشم منه رائحة النقص أو التشبيه أو التجسيم، غير أن هذه الطريقة في فهم العقائد لم تقنع الجماعات التي دخلت في الإسلام من أهل الأديان الأخرى التي كانت تعج بالشبه والخلافات، فركنوا في تقرير العقائد ورد الشبه إلى الأقيسة العقلية والأشكال المنطقية.
Bog aan la aqoon