وكان قد هدأ روع فؤاد نوعا الآن فأجاب نسيبا بلهجة تفرق عن لهجته؛ لأنه كان رجلا يعتبر جنس النساء الذي والدته منه؛ فسلام عليك أيها الحب الشريف الأدبي المنزه الذي يربط قلب الولد بالوالدة ويوجب عليه احترامها والنضج عنها واحترام كل امرأة سواها؛ لأنها من جنسها. سلام عليك أيها الحب السماوي الذي نطقت بلسان فؤاد إذ قال لنسيب: إنك باحتقارك بديعة تحتقر كل النساء ومعهن أمك، فجرب أن تلطف حديثك وتنبذ كلام فيلسوفك العربي؛ إذ تعرف بأن المرأة هي نصف الهيئة الاجتماعية، ومن الجهل والخمول والظلم أن يكون نصف هذه الهيئة مظلما ونصفها الآخر مضيئا، وإنه متى حرمت المرأة من التنور والعلم حرم العالم نصف الجمال وفائدة الهيئة، وهو النصف اللطيف فيها، فالعلم الصحيح هو الذي يصغر الشر لا يكبره، ومتى كانت امرأة شريرة وعالمة لا يكون الذنب على علمها بل على غريزتها التي قويت على العلم وغلبته، وفي أكثر الأحيان نجد أن سبب هذا «الجهل» هو الذي يتحدر من أم جاهلة. وأكبر برهان حسي على فائدة العلم للمرأة هو تقدم الأمم وانحطاطنا، فمن كان ينظر ويتعامى يكون ذا غاية دنيئة، ومن كان أعمى لا ينظر فلا يلام، فصدقني يا نسيب إنني أندب حالة النساء إذا كان رأي كل الرجال كرأيك فيهن، فلو كانت النساء خلقن للشر كما قلت، سواء كن جاهلات أم عالمات لكنا لا نرى في العالم الآن غير الشر والأشرار؛ لأن كل رجل تستلم زمام أموره امرأته وهذا ظاهر، ومن المؤكد أن الذي تربيه امرأة وتعاشره امرأة طول حياته يتلقن عنها الشر ويصبح العالم كله أشرارا «بنظرك». ولكنني أشكر الله أن الذين يذهبون مذهبك قلال، وأنت وهم تستحقون أعظم القصاصات من النساء. فتظاهر نسيب بالضحك وقال: أرجو أن تتسلى ... ولكنني قلت وأقول بأن النساء أصل كل شر على الأرض وسبب كل تعاسة، وأما قصاصي فقد نلته منهن وهذا ما حملني على مثل قولي لك.
فقال له فؤاد: أنت قلت بأنك «انخدعت» من بديعة وأطعتها بالهرب معها، فإن كنت فعلت هذا مختارا؛ تكون شريكا في الجرم، وأنت وهي متساويين، وإن كنت أتيت الأمر مضطرا؛ لأنك لم تقو على المدافعة تكون ضعيفا جبانا وتستحق أن تقودك امرأة كيف شاءت، ولكن إذا خدعت من امرأة فلا يحق لك ذم الجنس كله.
فقال نسيب: إذا كان علم وتهذيب بديعة لم ينتجا غير عملها هذا، فأنا أشك بوجود امرأة فاضلة وبأن العلم مفيد للمرأة.
وإذ ذاك نهض فؤاد عن كرسيه وكان خائر القوى ونظر إلى نسيب شزرا وقال: أرجو أن لا تلفظ اسمها فيما بعد وأن تتركني لأنام قليلا.
ذهب نسيب ولم يحضر لبعد ثلاثة أيام، لا هو ولا ذلك الدليل الذي ظنه فؤاد من أصدقائه.
الفصل السابع والعشرون
الالتقاء ببديعة
وبعد انقضاء أربعة أيام على مشاهدة فؤاد لنسيب، نزل الشابان في محطة سنسيناتي، فوجدا فيها شابا كان يعرفه نسيب، وهو من أصدقائه، فسر بالالتقاء به ودعاه إلى ركوب العربة معهما.
وفيما هما في العربة كان نسيب يسأل الشاب قائلا: كيف حال صاحبتك بديعة يا يوسف؟ وهل عهد اقترانها بأديب قريب.
فقال يوسف: هذا ما أسمعه، وقد مرضت بديعة مرضة قوية ولكنها في طور الإبلال الآن وتتقدم إلى الصحة. فاضطرب قلب فؤاد من سماع الجملة الأخيرة كما اضطرب من الأولى؛ لأنه كان لا يزال يحب الفتاة بالرغم عن كل ما صار. وسمع حديثهما الباقي بصبر غريب، واستأنف نسيب حديثه قائلا ليوسف، وقد غمزه بطرف عينه: يظهر بأن بديعة تحب أديبا كثيرا.
Bog aan la aqoon