وها أنا أطالبك بهذا القول؛ لأن مقال هذا المقام هو غير مقام ذاك. بديعة ... بديعة ... إن كل شيء تغير الآن، فإن فؤادا قد خطب وقد يكون تزوج الآن، وأنا قد هاجرت إلى هذه البلاد لأجلك - لأجلك فقط - وعلى كلمة من شفتيك يتوقف هنائي أو شقائي. فهل من العدل أن تحبي رجلا لا يحبك وقد خانك، وتنبذي محبة رجل كل غايته من الحياة أن يجتهد بجعلك سعيدة فيها؟
فقالت بديعة بغير تأثر: أنت يا سيدي صادق وأنا قد قلت بأن لكل مقام مقالا، وقد ظننت أن عقلي يتغير، أما وأنا لم أزل على مبدئي الأول فزواج فؤاد يزيدني ثباتا. وتراني الآن أصبحت أقوى على الثبات من ذي قبل؛ لعلمي بأن فؤادا قد تزوج وقد سلاني.
فصدقني يا خواجة نسيب إنني أفضل العزوبة على الزواج؛ لأنني لا أرى به إلا الشقاء، لأن الحب نور الحياة الزوجية وبدونه تكون الحياة مظلمة، وأنا قد مات قلبي عن الحب؛ لأنني أحببت حبا صادقا طاهرا، ولا أقدر أن أحب مثل هذا الحب غيره. هذا ما أشعر به في الوقت الحاضر، فلذلك أرى من التعاسة والخيانة معا أن أقترن برجل يحبني ولا أحبه؛ لأن الاحترام شيء والحب شيء آخر. فحياتي منفردة أناجي نفسي وأقوم بواجباتي نحوها ونحو القريب، وذلك خير لي من أن أكون مع رجل يقدم لي كل شيء ولا أقدر أن أقدم له شيئا؛ لأن كل شيء ما عدا الحب في الحياة الزوجية باطل.
فنزل كلامها على رأس الشاب نزول الصاعقة ومر عليه مرور البرق، فقال في نفسه: إن هذه الفتاة تجازيني على خيانتي وهي لا تدري، وهذا فعل العناية. ثم غاب هذا الفكر ورجعت أفكاره الأولى وقد خامر قلبه حب الانتقام من بديعة إذا أصرت على عنادها، ولكنه رغما عن هذه الانفعالات قدر على إحسان التظاهر.
فقال بلطف: إنك فتاة مخلصة وشريفة النفس، وحيث إن معنى الحب هو إنكار الذات كما قلت، فيا ليتني أكون قادرا على جمع شملك بفؤاد إحياء لقلبك العظيم بحبه وشواعره، ولو مات بذلك قلبي، ولكن هذا مستحيل، وأنا أسألك بشرفك أنك لو سئلت إبداء رأيك بفتاة قصتها كقصتك، وماذا يجب أن تفعل: تعيش بذكر حبيبها وحده، أم تتزوج برجل آخر تعتاض بحبه عن الأول، فماذا تجيبين؟
أجابت بديعة: أقول بأنها يجب أن تتغلب على الحب القديم إذا كان بالإمكان، وتعتاض عنه بالحب الجديد؛ لأن ما فات مات، وعلى رأي أحد شعراء الإنكليز: «الطاحون لا تطحن بالماء التي جرت بل التي تجري.»
فقال: إذن كيف لا تصفين دواء غيرك لنفسك وأنت أحوج من سواك إليه؟
قالت: لأنني لا أقدر ولا أظن بأنني أقدر فيما بعد على حب رجل آخر، كما أنني لا أظن أن كل فتاة تقدر على هذا الأمر أو كل فتاة مثلي تحب بأن يتزوجها رجل لا تحبه مختارة تكون أتت خداعا ومكرا.
فقال: غيري فكرك يا بديعة وارحمي قلبي الذي أضعه على أقدامك الآن وارتضي بالاقتران بي، فمتى تم اقتراننا وجربت حبي واعتباري وتفاني في مرضاتك تحبينني، وأنا أرضى بهذا الأمر لأنني أعلم بأن الفتاة الشريفة مثلك تكافئ الشيء بمثله.
فقالت بديعة مبتسمة: كثيرا ما سمعت هذا القول من الشبان للبنات، ولكنه قول باطل وإذا صح أحيانا فذلك نادر؛ لأن لا أمل بإحياء القلب الميت والمراد إحياؤه حياة جديدة تامة. والمرأة أو الرجل اللذين يرضيان بهذا الامتحان يكونان يسحبان ورقة «يا نصيب»؛ لأنه قد تحب الفتاة شابا حبا صادقا، فتفترق عنه وتتزوج بآخر «فتحترمه»، وتكون تحفظ لذلك الرجل زبدة الحب رغما عنها. أما أنا فلا أفعل هذا؛ لأنني لا أشرك بحبي، ولأنني إذا لم أقدر أن أمحو الحب الأول من قلبي فلا أحب ثانية، وأكون خائنة لزوجي بحفظي ذكر رجل آخر.
Bog aan la aqoon