ونظرت بديعة بعين نفاذة، فرأت أن أكثر النساء الشابات - ولا سيما العزب منهن - ينظرن إليهن شزرا، وفي وسط ذلك الاجتماع كان شاب يكلم آخر باللغة الإنكليزية وينظر إلى الفتيات بطرف عينه ويبتسم، وآخر يتفنن جذلا ويتلوى يمينا وشمالا وينظر إليهن، وثالث يتكلم كلام خفة وطيش وينظر إليهن أيضا كأنه يتوقع «رأيهن في تهذيبه»، وهذا ما جعل بديعة تنفر من هؤلاء، وفي ذلك الوقت تلاقى نظرها بنظر جميلة صدفة، فعرفت كل واحدة ما تفتكر فيه الأخرى، وتخاطب القلبان؛ إذ لم يكن سبيل لتخاطب اللسانين، ولم تدريا أن قلبا ثالثا كان يخاطبهما في تلك الساعة؛ إذ نظر إليهما وعرف ما افتكرتا فيه، وقال: هل من الممكن أن تكون تلك الفتاة هي التي ينتظرها فراغ قلبي لتملأه ؟ وكان يعني بديعة ...
أما هذه فكانت منشغلة بمحادثة الناس والإصغاء إلى أحاديثهم، وكانت آيتها الذهبية أن تحدث الناس بما يسرهم لا بما يسر نفسها. وهذا ما كان يزيد حديثها طلاوة ويزيد الناس إعجابا ورغبة بمحادثتها ومجالستها، حتى دعيت فيما بعد «ملكة المجالس»، وبهذا كانت تفيد نفسها كثيرا؛ إذ إنها بنظرها لما يسر الناس من الكلام كانت تفتش عن أنفعه وأصحه، وكانت تمحصه وتزنه بفكرها قبل التلفظ به، فكان يأتي سالما من الغلط طليا مفيدا. وكانت لوسيا تلاحظ أثواب النساء «وموضهن»، وتنظر وتراقب الرجال لعلها تطلع على أخلاقهم مراقبة من تروم الاقتداء وترغب الزيادة. أما جميلة فقد رجعت بأفكارها المؤلمة إلى لبنان، حيث تجلت لها صورة والديها وصورة من خانها؛ لأنها رأت شابا هناك يشبهه فذكرها به.
وكان أديب يلاحظ بديعة وقلبه في عينيه، وأول دلالة رآها على آدابها هو أنها لحظت بأنها جرحت سيدة بكلامها على غير قصد منها، فغيرت حديثها بلطف حالا ولم تكمله دائسة إحساسات الغير بخشونة، أو تستعذر فستلفت أنظار الناس بغلاظة؛ لأن بديعة لم تكن كالنساء اللواتي يحسبن أن جرح إحساسات الغير بالكلام «عياقة وشطارة»، بل كانت تنسب هذا الأمر إلى قلة الأدب والخشونة وإلى النقص في التربية والأخلاق.
ومع أن بديعة كانت زعيمة الأحاديث في تلك الليلة لإصغاء الناس إلى أحاديثها الطرفة؛ فإنها لم تستأثر بالحديث، بل كانت تشارك وتصغي أكثر مما تتكلم أحيانا.
وما دهشت منه بديعة هو أن امرأة كانت تكثر من طرح الأسئلة على المحدث بشأن الحديث الذي كانت تسمعه، وتتكلم وتضحك بصوت عال جدا، وتستعمل لغة غير أدبية، وتنادي زوجها: «يا حبي ويا روحي»، وهو كلام وإن يكن جميلا بين الزوجين متى كانا منفردين فهو قبيح متى كان بينهما في المجالس. ثم إن تلك المرأة كانت تنادي الرجال بأسمائهم مجردة، مع أن هذا وإن يكن من الألفة والصلة الجنسية التي بيننا نحن السوريين، فهو يخالف التهذيب ويحمل على الاحتقار والريب.
وفيما هي تتأمل هذه السيدة أجفلت؛ إذ سمعت سيدة أخرى تقول بصوت عال لرجل أراد أن يحدث عن قصة: «إنني أعرفها.» فقال الرجل: إذا كنت تعرفينها فغيرك يجهلها يا سيدتي.
وسيدة أخرى أرادت أن تحدث عن شخص ما ولم تكن تعرف اسمه، فقالت: هذا ... شو ما بعرف اسمه ... وكانت هذه السيدة أيضا تتكلم بصوت منخفض لا يسمعه أحد، وهذا كالصوت العالي تماما في عدم لياقته.
وأنسى بديعة كل ما مر وجود فتاة بارعة الجمال في المجلس، عليها حلي وملابس ثمينة تبهر النظر، وكأن هذه الفتاة وجدت هناك لتظهر للناس كبرياءها وسوء تصرفها فقط، فلم يتكلم أحد إلا ضحكت منه وأصلحت له كلامه بدعوى أنه «غلط»، فكان حديثها كله نميمة في الغير واغتيابا لهم وضحكا من الحاضرين وإظهار الاشمئزاز منهم. وكان كلامها كله «مغلقا» أو «مبطنا» ذا معنيين. وكانت تبدي رأيها في كل أمر بدون أن يسألها أحد أن تفعل ذلك. ولم يكن شيء يدل على جهلها ويبرهن عن عدم تهذيبها وانحطاط آدابها عن الذين تذمهم إلا عملها هذا.
وبعد انقضاء تلك الليلة الساهرة أعدت للفتيات غرفة فذهبن إليها لينمن، ولما نزعن عنهن ثياب النهار وغسلن وجوههن جيدا ارتدين بثياب النوم، وطاب لهن الحديث على انفراد، والتحدث بما يراه الإنسان غريبا عنه طبيعي، وكانت البادئة به لوسيا التي قالت لبديعة: كيف رأيت هذه الليلة يا بديعة؟
فقالت بديعة: لماذا خصصتني بالسؤال دون جميلة؟
Bog aan la aqoon