فأجفلت تلك الفتاة من كلام بديعة أكثر مما أجفلت من إرجاعها إياها عن عزمها، وللحال وقعت إلى الأرض هي وبديعة التي لم تتركها مغمى عليها. ولما استفاقت وجدت رأسها المملوء هموما على ركبة بديعة، وعينا هذه تنظران إليها وملؤهما الدموع. فنظرت إلى ذلك البحر الهادئ الواسع أمامها، وتبين لها ما كانت مزمعة أن تفعل. ثم حولت نظرها منه إلى وجه بديعة الجميل الذي حال بينها وبين السكن في قعره العميق.
وكانت الفتاة ذكية، فقرأت حالا على وجه بديعة سور الرحمة والمحبة والحنو، وعرفت كم هو مفيد للإنسانية التعيسة ذلك النور الباهر الذي كان ينبثق من عيني بديعة. ومن الغرابة بمكان أن وجه الناظرة كان ما يسمونه «بسيطا»، بينما وجه المنظورة كان جميلا فتانا يستخرج الغيرة من قلب كل امرأة، إلا قلب تلك الفتاة التي شعرت من تلك الساعة بحب خفي وامتنان زائد لذلك الوجه الذي نجاها من الغرق، وهل ليست محبة هذه الفتاة لتلك من العجائب، وبينهما حاجز عظيم هو كل ما ترنو إليه المرأة وهو الجمال؟ نعم، ولكن هناك سرا خفيا لا يتبينه إلا كل ناقد، وهو مساواة تينك الفتاتين بجمال النفس، وإن اختلفتا بجمال الجسد. فبعين الجمال من النفسين نظرت جميلة بديعة فأحبتها؛ لأن نفسها جميلة مثلها، ولم تكترث لجمال وجهها لأن من يعتبر الجوهر يحتقر العرض.
تحدثت نفسا الفتاتين وقلباهما قبل تبادل لسانيهما الكلام، وبعد برهة من التأمل قالت الفتاة جميلة لبديعة: إنني أشكرك على معروفك يا أختي، ولكن قد كان هذا المعروف مضاعفا لو تركتني أموت؛ لأن الموت خير من الحياة عندي.
فأجابتها بديعة بصوت حنون، وهي تمر يدها على رأس الفتاة الذي كان لم يزل على ركبتها: ولماذا كل اليأس يا صديقتي؟ - إن لذلك سببا يا عزيزتي لو عرفته لما لمت من تروم إبدال الراحة بالعذاب.
فعرفت بديعة ذكاء الفتاة، وأنها لم تقدم على الموت انتحارا إلا بعد أن قطعت كل رجاء من الحياة السعيدة. وقالت: ما عسى أن يكون أمرها غير أنها مصابة بداء كدائي؛ إذ ما هو الذي يعكر صفاء راحة فتاة بهذا العمر غير الحب، وهو أول صعوبة تمر عليها في الحياة وأعظم صعوبة. إن الداء متشابه ولكن الدواء مختلف. ثم نظرت إليها وقالت بحنو: لو كنت أعرف بأن انتحارك تعقبه راحة لا عذاب مزدوج، لكنت تركتك تتصرفين بنفسك كيف تشائين. ولكن كما أنني لا أجهل مرارة الهموم، فأنا لا أجهل بأن نفسنا ليست لنا وقتلنا إياها يعني الهلاكين في الدنيا والآخرة. - قد كنت أعلم كل هذا لما كنت بهناء من العيش، ولكن لما تواترت علي المصائب لم أفتكر إلا بإغماض العين عنها في هذه الدنيا ولم أكترث لما يحل بي بتلك. - مهما يكن مصابك عظيما ففي الدنيا مثله وأعظم منه، وأنا لا أشك الآن في عظمته؛ لأنني عرفت مقدار ما أنت عليه من الذكاء والفضل من حديثك، فعرفت بأن:
أفاضل الناس أغراض لدى الزمن
يخلو من الهم أخلاهم من الفطن
ومن اعتقادي أن الله بعدل يخص فضلاء الناس بكثير من المصائب؛ وذلك ليكونوا قدوة لسواهم من الناس. وقد قيل بأن الإنسان «خلق ليكون تعيسا إن كان عاقلا، وسعيدا إن كان جاهلا.» والسر بهذا أن الإنسان كلما كثر شعوره كثرت مطالبه، وكلما كثرت مطالبه وعظمت مقاصده كثر همه.
ولكن العقل الذي هو سلاح الإنسان يجب أن يحارب الهموم مع النفس، وليس النفس مع الهموم. ومن جنى على نفسه وهو جاهل يعذره الناس، أما العاقل فلا عذر له لمعرفة ماهية الأمور. ومن العار أن تحاربي نفسك أنت بسلاح الجبناء الذي هو الانتحار. - ولكن لو حكيت لك قصتي لعذرتني.
فلم تسألها بديعة أن تحكي لها قصتها؛ تأدبا وإبعادا لها عن الافتكار بما يؤلمها. أما الفتاة فقد لحظت منها هذا، وقالت: اسمعي قصتي واحكمي علي: إنني فتاة وحيدة والدي، ولما كنت في الثانية عشرة من عمري خطبني شاب من أسرتنا لئلا يذهب الميراث للخارج، فبعد خروجي من المدرسة أحببت الشاب حبا أقل ما يقال فيه إنه صادق، ومن مدة وجيزة أعلن وقت زفافنا وأخذت أنا بالاستعداد، وفي وسط هذا الاستعداد وجد الشاب من هي أجمل مني وجها فأحبها، واقترن بها ولم يكتف بما فعل كأن حبي له كان ذنبا عظيما يستحق قصاصا أكبر من هذا، فصار يجعل لي سبيلا للغيرة بأعماله وأقواله، حتى كاد يمزق قلبي وأنا لم أتكلم كلمة. ولما عيل صبري وازداد هو تماديا بعذابي تركت أبي وأمي الشيخين وجئت لبيروت، ومنها سافرت على ظهر هذه الباخرة لأرمي بنفسي في البحر حيث يبقى أمر انتحاري مكتوما عن كل إنسان، فأتيت أنت وخلصتني.
Bog aan la aqoon