ولما كان وراء كل شيء غاية، فغايتي من إرسال هذا الكتاب إليك هي لأمرين مهمين؛ الأول: وهو لكي تتأكد بأنني كما أنا أناجيك في آخر دقيقة في بيتكم، هكذا سأناجيك إلى وفي آخر دقيقة من حياتي. وأما الأمر الثاني: فهو أن تعتبر جميلك علي وتعرف بأن حبك هو الذي يقويني، وهو الذي سيجعل مني فتاة نافعة في الحياة؛ لأن للحب تأثيرين عظيمين: أحدهما جيد، والآخر سيئ. فمن الأول ينتج حب عمل الخير الذي تتجلى وتنبسط به صورة الحب الشريف الطاهر، التي تمثل الفضائل وتوجد في حبها تعزيزا للحب. وعن الثاني ينتج حب الانتقام، والميل إلى الشرور والمعاصي، والانحياز إلى جانب كل رذيلة، كالبغض والانتقام والغيرة والحسد وسواها. وإذ إنني لا أستطيع أن أكون إلا من النوع الأول الذي يظهر بأنني خلقت لأجله، فالفضل بقوتي راجع إليك.
متى رجعت من المدرسة مضفورة على رأسك أكاليل الفخر ولم أكن أنا في البيت من أول المهنئين، فاذكرني واسأل قلبك عني، وهو يدلك بأن في العالم قلبا كان وكائن وسيكون مخلصا لك، والله يحفظك.
للمخلصة بديعة ...
طوت بديعة الكتاب وهي ثابتة كما قالت لفؤاد؛ لأن الهدوء عند مساورة المصائب أعظم مساعد على إزالتها بحكمة وتدبير، وخرجت من بيت سيدها إلى أحد بيوت الجيران حيث سلمته لفتاة كانت لها صديقة ورفيقة، وأوصتها أن تسلمه لفؤاد عند رجوعه من المدرسة. ولم ترجع بديعة إلى تلك الدار الفخيمة التي كانت تحسبها في الأمس ملكها، وقد خرجت منها اليوم، وبعد أن تأملت في كل ما مر بها ظنت نفسها كأنها كانت بحلم وقد استيقظت وذهب كل شيء إلى عالم الغيب، ثم استحضرت عربة وركبتها.
وكانت وهي جالسة وحدها في زاوية العربة تحارب الهموم والأكدار بقدر استطاعتها؛ حتى لا تجعل للمراقبين سبيلا إلى التأويل. وكانت الخيل تجري بسرعة كلية ولكنها وقفت بغتة، وسمعت بديعة السائق: تفضل ادخل يا سيدي نسيب. ولما سمعت بديعة هذا الاسم اختلج قلبها وأطلت من العربة لترى إن كان المخاطب هو نسيب ابن خالة فؤاد، فلما وقع عليه نظرها أرجعته مضطربة. أما هو فلما دخل العربة أحسن التظاهر بأن التقاءهما كان صدفة، وهو لم يكن كذلك؛ لأن هذا الشاب كان عارفا بما حل ببديعة وإن يكن غائبا عن البيت بحيلة منه.
ولما استوى جالسا ووضع رجلا على رجل، التفت إلى بديعة مبتسما، وقال: إلى أين بالسلامة؟
فقالت الفتاة، وقد اجتهدت في أن تظهر هادئة غير مضطربة: إلى القرية الفلانية ...
أجابها هازلا: إذن ليس ذهابك إلى عينطورة كما ظننت؟
فقالت بديعة، وقد عبس وجهها من كلامه حتى حسبها نسيب غير تلك الخادمة الحقيرة التي كان يقول لخالته عنها بأنها خالية من الشرف والمروءة: إنني لم أجعل لك سبيلا بكلامي إلى المزاح، فأرجوك أن تعدل عما أنت عليه. - أرجو المغفرة منك على مزاحي، فهل لك أن تقولي لي الجد من أمر ذهابك وإلى أين هو؟ - هو إلى القرية التي قلت لك عنها، حيث لي صديقة ودودة من أيام المدرسة وبودي أن أسافر برفقتها إلى أمريكا.
فملق الشاب فيها بعينيه وقال: إذن أنت ذاهبة من بيت خالتي ولا تعودين إليه، فهل اطلعت ... - يظهر بأنك عالم بكل شيء. نعم لقد اطلعت على مكتوب سيدي، وتركت بيته مختارة قياما بواجب الشرف.
Bog aan la aqoon