فقالت لها تلك السيدة بغضب خفي: إذن أنت تحبين فؤادا كما هو يحبك!
أجابت بديعة: ماذا يهمك من هذا الأمر يا سيدتي متى كان قولي لك بأني سأغادر بيتك إلى مكان لا يعلم به ولدك؟!
لم تكن السيدة مريم خالية من الهموم، بل كانت قد نالت نصيبا وافرا منها لأن أختها الوحيدة أم نسيب ماتت في عنفوان صباها، ومات لها ولدان أكبر من فؤاد، ولكن الهم الذي اعتورها من سماع قصة بديعة كان أعظم الهموم التي مرت عليها إلى ذلك الحين، فاضطربت لأجله كل حواسها وبقيت صامتة نحوا من نصف ساعة تفتكر في ما يجب أن تفعله، فقالت في نفسها: إذا سمحت لها بالذهاب بدون علمه ربما يغضب ويتبعها. وما يقدران على فعله وهما بعيدان عني لا يقدران عليه الآن.
وبعد هنيهة نظرت إلى بديعة وقالت: لا يجب أن تذهبي اليوم، بل اصبري إلى أن ننظر في الأمر، ولا تسمحي لفؤاد بمخاطبتك. ثم قامت وخرجت من الغرفة ولم تعد تنظر وراءها لترى تلك الفتاة الطاهرة بديعة، من كيف أنها جثت على ركبتيها وصلت بحرارة كلية لله تعالى كي يهبها قوة النفس والجسد ويهديها إلى الصراط المستقيم. ومن البديهي أن بديعة تضرعت إلى الله كي يفرج همها ويخلصها منه، اللهم حتى لا يكون بتكدير أو ضرر الغير؛ لأنها لم تحب أن تبني قلعة سعادتها الخاصة على أنقاض سعادة الغير العامة، وهذا هو الشرف الحقيقي.
الفصل السادس
الخيانة
وبات فؤاد ووالدته وبديعة ينتظرون الغد بصبر مزعج ويحلمون به، ففؤاد كان ينتظر الغد ليفاتح والديه بأمر حبه ويطلب رضاهما، فإن رضيا عنه كان خيرا، وإلا فإنه يقترن ببديعة على كل حال تبعا للمثل القائل: «لهما المشورة وليس الرضى.» وأم فؤاد كانت تنتظر الغد ولكن ليس بفرح وسرور كما كان ينتظره فؤاد، بل بهم وخوف لأنها كانت تعلم بما سيجلب لها ذلك الغد وتمنت لو لم تره.
ومع أن بديعة كانت تخاف من «الغد» أيضا، فإنها كانت أقل خوفا وأكثر أملا من سيديها؛ لأنها كانت تنتظر به أمرين سيتم أحدهما، وهما: إما رضى والدي فؤاد عنه وعدم معارضته بالاقتران بها، وإما عدم رضاهما وذهابها هي من ذلك البيت؛ فبالأول كانت سعادتها إذ تجتمع بحبيبها وتستريح من مشاق الحياة برضى من والديه، وتعيش طول حياتها سعيدة. وبالثاني كانت سعادتها بالتخلص من مرأى فؤاد الذي ربما كان سبب تعاستها؛ إذ تكون معه ما بين عاملين يتنازعانها دائما: عامل الحب الذي مصدره القلب وعامل الواجب الذي كانت تعتبره كثيرا بكل شيء، ولكنها رجحت الأمر الثاني لأنها علمت ما هي أخلاق الأغنياء وكبرياؤهم، وكيف أنهم يحسبون من هو من غير طبقتهم خارجا عن جبلة بني آدم ... فلذلك استعدت بكل قواها لتلقي الخبر الذي يقضي بذهابها وبقيت طول ذلك الليل تفتكر فيه.
فلما أصبح الصباح على الثلاثة وأتى بقليل من الفرج الذي لا يعرفه المهموم والمريض في ظلمة الليل، كانت بديعة أقل اكتراثا للأمر كيف أتى، ولا غرو فقد ميزت أن الافتكار في المصيبة يضعف من قوتها.
وبعد أن مضى على ترك السيدة مريم لغرفة بديعة ساعة تقريبا كانت ترى مرتدية ثوب النوم وشعرها الأسود الطويل مرسل على كتفيها، وهي واقفة على باب غرفة ابن أختها تطرقه؛ لأنها عجزت عن النوم في تلك الليلة وغلب عليها الأرق فلم تر لها من مغيث سوى نسيب الذي كانت ترتاح إلى محادثته وتعجبها نصائحه، لا سيما وأنها لم تحب أن يطلع زوجها على الأمر لترى كيف وعلى أي وجه تنتهي المسألة.
Bog aan la aqoon