عند ذلك رأت الفتاة بأن وقت المناضلة والوقوف بوجه هجمات التجارب قد أتى، فاستجمعت كل قوى نفسها، ونظرت إليه نظرة من وقف مناضلا عن النفس وذائدا عن الشرف والواجب بكل قواه وقالت بصوت رزين: كلا يا سيدي، إن هذا ما لا أقدر عليه؛ لأن مقامي كخادمة في البيت لا يسمح لي باستقبالك في غرفتي وبانفراد وبغياب سيدي والديك ... لأن هذا ما يحمل سائر الخدام على الشك والظنون، ويدعو إلى تغيظ والديك صاحبي الفضل علي وخرق حرمة شرفي وخيانتي بواجب إعطاء المثل الصالح لغيري من الخدم.
ولم يخف على بديعة ما أحدثه كلامها بقلب الشاب من اليأس والقنوط؛ إذ نظر إليها وقال: إن طلبي لم يظهر لي بالخطارة والعظمة كما ظهر لك، ولو افتكرت بأنني سأزعجك بكلامي وأسبب لك إساءة الظن لما تكلمت قط، ولكنني قلت ما قلت بقصد سليم؛ إذ أي بأس على فتاة عزباء مثلك إذا خاطبت شابا أعزب مثلي سواء كان على انفراد أم أمام الناس؟! - لا بأس من هذا يا سيدي مع من كانت في غير مقامي، فهل نسيت بأنني خادمتك؟
ولم تنته بديعة من كلامها حتى رجع أمل الشاب إليه؛ إذ ظن أن بديعة تتخذ كلامها هذا حيلة للتوصل إلى معرفة مقاصد الشاب وامتحانه. أما هي فلم تفتكر في هذا قط، بل إنها تكلمت كما افتكرت، وأكثر البلايا تأتي من الصدق وحرية الضمير وبساطة القلب، فقال: إنني أخاطب شخصك ولم أفتكر أبدا في مقامك؛ لأن المقام لا يصير الشخص، بل الشخص يصير المقام، وأنت بآدابك وفضيلتك «سيدة» بكل معنى الكلمة، وبالرغم عن هذا المقام الذي لا أحب أن يكون حجر عثرة في سبيل صداقتنا. وكلامك يدل على أنك لا تثقين بشرفي ولا باعتبار الناس لشرفك، مع أنه من الخطأ أن نحل الحقيقة محل الوهم يا سيدتي.
فحركت هذه الكلمة الأخيرة كامن الألم في قلب الفتاة؛ لأنها لم تكن سمعتها من رجل قبله، وعرفت صدق كلامه من وجهه فأجابته: إن لطفا كهذا نحو فتاة خاملة مثلي قد يخدعها بنفسها لو كانت غير خبيرة بالأحوال، أما أنا فأقول بأنك إن أجزت هذا وحللته لي فأبواك والناس وأنا ذاتي نحرمه، ونحرمه بحق.
فعجب الشاب من محافظتها على واجبات الحشمة والأمانة والأدب، وعوضا عن أن يخفف امتناعها من حبه أو يغيظه، زاده رغبة بمحادثتها ولطفا معها فقال مبتسما: إذا كنت لا تسمحين لي بدخول غرفتك فاسمحي لي بمحادثتك على تلك الشرفة؛ لأن لي ما أقوله لك، ولعمري أي بأس من وقوفنا هنا منظورين من كل الخدم؟!
فقالت له: إن هذا الأمر كذلك يا سيدي، فإذا كان لك ما تقوله لي فعليك أن تبلغه لوالدتك وهي تقوله لي؛ لأنني شديدة الحرص على واجب الأمانة بكل شيء، وأنت شريف فلا تظلمني.
فنظر إليها متعجبا من قولها: «بلغه لوالدتك.» وقال في نفسه: أهي جاهلة أم متجاهلة يا ترى؟! وانثنى راجعا بدون جواب.
رجعت بديعة إلى غرفتها وأغلقت وراءها الباب وفتحت كتابها ثانية لتقرأ فيه، فلم تقدر على ذلك؛ لأن أفكارها كانت اتخذت لها مجرى آخر، وقد يلحظ القارئ اللبيب عظم التضحية التي ضحتها بديعة حبا بواجب الأمانة؛ إذ لا شيء في العالم يمنعها عن محادثة الشاب الذي تحبه وهو أعزب مثلها، غير افتكارها في أن عملها ربما جر عليها غيظ سيديها، وجرح قلبيهما، وهي لا تريد ذلك لهما مكافأة على أفضالهما عليها، فرمت الكتاب من يدها وقالت: سعيد هو القوي الذي يقدر على الوقوف بوجه كل شيء من شأنه أن يخرق حرمة الشرف والواجب.
أما فؤاد فإنه لم ييأس كل اليأس من محادثة بديعة في ذلك النهار، فلما ذهب من عندها خطر له خاطر فذهب حالا إلى الحديقة وهو يقول: لا يجب أن تخضع قوة الرجل لقوة المرأة، فإن خذلت من مخاطبتها يجب أن أستعمل معها الحيلة وأكون بذلك «دفعت لإحدى النساء من عملتهن»، وكان يعرف شدة حرص بديعة ووالدته على زهور الحديقة وأشجارها التي كانتا تعتنيان بها بنفسيهما، ولما عرف هذا ضحك في سره وذهب مفتشا عن أكبر غرسة فيها، فوقعت عينه على شجرة من الفل المكبس ومن أكبرها في الحديقة، وللحال اقتلعها ورمى بها إلى الأرض وصاح بصوت عال إلى أحد الخدم وكان غلاما «مجذوبا» يصح أن يكون أعمى بصر البصيرة لا ينظر ولا يفهم، ولما أقبل الغلام قال له فؤاد بغضب وهو مقطب حاجبيه: من فعل هذا يا سليم؟ ومن اقتلع شجرة الفل؟
فأجاب الغلام متلجلجا: لا علم لي بذلك يا سيدي؛ إذ إنني لا أدخل هذه الحديقة مع أغلب الخدم بتنبيه من سيدتي والدتك ومن بديعة.
Bog aan la aqoon