واستوحشت بديعة لغيابهما، فنزلت إلى الحديقة تتمشى، وفيما هي هناك سمعت ضجة الخدم يتكلمون وواحدة منهم تقول: أنا أعلم حق العلم بأن سيدتي ستندم على إكرام هذه الفتاة المتكبرة؛ لأنها قد أصبحت هي ربة البيت وسيدتنا الخادمة، وإذا تركتها على هذا الحال فإن وجهها هذا الجميل الذي تحبها لأجله وتفضله علينا كلنا سيكون سبب تعاستها؛ إذ يأتي سيدنا فؤاد ويقع في شراك هواها فتعرف إذ ذاك والدته الخطر من الوجوه الجميلة ... فأجابه صوت آخر وقال: اصبري قليلا فتسمعي سيدتك تقول هذه الجملة: «ركبتها ورائي فمدت يدها إلى الخرج.» ومن يعش ير.
عند ذلك انقطع الصوت، فمشت بديعة تهز برأسها وجملة المرأة الأخيرة ترن بأذنيها، ولما وصلت إلى ردهة الاستقبال جلست على مقعد من القطيفة الحمراء، وقالت: لا غرو إذا أبغضني الخدم، فأنا أبغض أعمالهم ولا أجاريهم فيها، ولكن كلام تينك الخادمتين كلام حكمة بالرغم عن صدوره منهما؛ فإن «الوجه الجميل خطر كبير» هذا حقيق، ولكن ليس مع من يكون عقلها أعظم من جمالها وشرفها أعظم من الاثنين. فما أقل عقول أولئك الخدام الذين يظنونني أتاجر بجمالي وأرمي شباك حسني إلى الشبان لأصطادهم بها. فأنا أعرف مقامي. وكفى بهذا لي رادعا عن كل عمل لا يكون لي ولا للغير منه سعادة بل شقاء. فطمئنوا نفوسكم يا رفاقي الخدم، واعلموا بأنني فتاة سوف لا أجعل سيدتكم تندم على استخدامي لثلاثة أمور؛ الأول: لأن التفاوت بيني وبين سيدكم عظيم. والثاني: لأنني سوف أتسلط على إرادتي كما فعلت وأفعل بكل وقت. والثالث: لأن لسيدتكم جميلا عظيما علي لا يكافأ بجرح قلبها هذا الجرح من اقتراني بولدها. وبينما هي بهذه الأفكار سمعت خرير دواليب العربة، فأسرعت للباب لملاقاة القادمين الذين نزلوا وذهبوا توا إلى ردهة الاستقبال، وذهبت هي إلى المطبخ لتعد لهم المرطبات.
لم تدر بديعة أن تلك النظرة بفؤاد قد غرست بقلبه شجرة سيكون ثمرها التعاسة والشقاء؛ إذ لو درت هذا لاقتلعتها حالا. ولكن هيهات أن تعود تقدر على ذلك؛ لأن غدف شجرة الحب تمتد في أرض القلوب بسرعة عجيبة، وأول ما شعرت به بديعة من أمر الحب هو لما قالت لها سيدتها في عصاري ذلك النهار بأنها تريد أن تعرفها بفؤاد ونسيب وتقدمها إليهما، وبدافع خفي لم تعرفه رفضت هذا الأمر معتذرة، واضطرب قلبها عند ذكر هذين الاسمين. فذهبت السيدة مريم من عندها وهي تقول: إذن لاحظي على الخدم في هذه الليلة يا عزيزتي، واستعدي للتعرف بهما غدا صباحا، إذا كنت لا تريدين هذا الأمر الليلة.
الفصل الثالث
الوليمة
عند الساعة السابعة إفرنجية - وكل شيء إفرنجي - ابتدأ توارد العربات البيتية الجميلة، تجرها جياد الخيول العربية إلى دار الخواجة منصور، فمنها ما كان ينتظر في فسحة الدار الخارجية، ومنها ما يتراجع بعد إيصال أصحابها. وكانت تلك الدار الرحيبة مضاءة بأجمل الأنوار الملونة، تضحك وتبش في وجوه الزائرين نائبة عن أصحابها بمقابلة الضيوف.
وعند مدخلها كان يرى شاب واقفا يلاحظ بطرف عينه الداخلين كأنه يدرس أخلاقهم بوجوههم، ولكن قل من اكترث له؛ لأن هؤلاء كانوا يدخلون وهم معرضون عن كل شيء حولهم، ومتشاغلون إما بالكلام مع رفقائهم وإما بالإسراع إلى داخل الدار. وكأن ذلك الشاب ضجر وتعب من الوقوف فجلس على مقعد قريب؛ لأنه عرف بأن مهمته لا تقضى بالقليل من الوقت.
وإذ ذاك تفرغ لمراقبة الناس المتقاطرة، فرأى ما كاد يضعضع فكره من اختلاف الأشياء، رأى السيدات الشابات بأثوابهن الفاخرة وأزيائهن العجيبة، يجررن وراءهن الأذيال الطويلة ليطابق قول القائل بأن المرأة كالطاوس، وعليهن الحلي النفيسة الموضوعة فوق صدور وأذرع مكشوفة كالبلور، لا يعرف الناظر أكان منها أم من الجواهر انبعاث ذلك النور الباهر. وإلى جوانبهن الشبان بملابسهم الإفرنجية على آخر زي، وقد بدا للكهولة والشيخوخة أثر ضعيف من النساء والرجال الذين كانوا يقبلون بالملابس العربية الفاخرة، حتى يخيل للناظر أن الأولين إفرنج والآخرين سوريون، ولا عجب إذا حكم الإنسان عليهم باختلاف الجنس، وكل فريق منهم يختلف عن الثاني زيا ولغة، فبينما الأولون يتكلمون اللغات الفرنساوية والإنكليزية والتركية، كان الآخرون يتكلمون لغتهم العربية فقط. ومن الغرابة أن بعض الشبان والشابات كانوا يشمئزون من الشيوخ والكهول لمحافظتهم على لغتهم وزيهم العربيين، في حين أن هؤلاء ينظرون إليهم بعيون ملؤها الرضى والسرور برؤية أولادهم وحفدتهم قادرين على تقليد الإفرنج، بينما هم مقصرون عن ذلك لكبر سنهم.
وبقي ذلك الشاب منتظرا خارجا حتى دخل جميع المدعوين تقريبا، فقام من مكانه وهم بالدخول أيضا؛ لأنه كان من جملة المدعوين. وكان يقول في نفسه: بعد مضي عشر سنين من الآن نسبق الإفرنج. ولربما صرنا في ذلك الوقت ننظر إليهم كما كانوا ينظرون إلينا قبل عشرين سنة. ولكن أهذا ما ندعوه تمدنا مفيدا أم مضرا؟ هذا هو السؤال السهل، ولكن الصعوبة في الجواب. إن التمدن والترتيب مفيدان جدا ولا شيء مثلهما، ولكن بشرط أن يكونا في كل شيء. والذي يستدعي الأسف أننا كدنا نسبق الإفرنج بتقليد العوائد المضرة فقط كعادة «الموضة» بكل شيء حتى «بلعب القمار»؛ فإن الإفرنج قوم درسوا قواعد تمدنهم أجيالا، أما نحن فلم نعرفه إلا من سنين. وقد كدنا نسبقهم بالتقليد. وهذه السرعة الغريبة تجعل الإنسان في ريب من الأصالة، وتحمله على المناداة مع العقلاء القائلين: «إذا أردتم الفضل الحقيقي فجدوا في طلبه من بيوت الفلاحين ومن الأكواخ المنفردة؛ لأنه هناك أبقى وأنظف مما هو في شوارع المدن الكبرى وساحاتها العمومية.» فلو نظرنا في أمر واحد، وهو أن نبقي على الجيد الحسن من عوائدنا، ونضيف إليه الجيد الحسن من عوائد الإفرنج عوضا عن الاندفاع التام وراء العوائد الإفرنجية، مع غض النظر عن المضر والمفيد منها، وترك عوائدنا كلها وإن كان فيها ما هو أفضل من عوائدهم بدعوى أن الأولى «موضة جديدة» وأن الثانية موضة قديمة، كأن الآداب ثوب يطويه البلى؛ لما كنا على ما نحن عليه من سوء الحال والحاجة إلى الإصلاح.
ولما دخل ردهة الاستقبال رآها مضاءة من وجوه الحسان بأبهى ما هي مضاءة من الأنوار، ورأى صاحبة المنزل قد جلست بقرب الباب لتكون منظورة من جميع ضيوفها عند وصولهم، فتوفر عليهم مشقة التفتيش عليها. وقد لبست ثوبا أسود نفيس القماش بسيط التخريج لا زخرفة فيه، ظهر به قدها الأهيف بأجمل مظهر، وتجلى فوقه وجهها الناصع البياض تحت شعر بلون ذلك الثوب كالقمر المنير في الليلة الحالكة الظلام. فقال في نفسه: يظهر بأن لي من وجه هذه السيدة مجلدات للدرس؛ لأن هيئتها تدل على أنها عارفة واجباتها، وستحسن تمثيل دور ربة بيت فاضلة. فلننظر لنرى إذا كان الظن لا يخيب، وإذا كانت هذه المرأة كما يقولون: «ملكة عارفة بواجبات مملكتها الصغيرة التي هي عائلتها.» وتقدر على القيام بمهام هذه المملكة الداخلية والخارجية خير قيام.
Bog aan la aqoon