ودخوله في هذا الموضع إلى المدح، ومفاخرته بين السماء والأرض من المعاني التي سبق فيها واستولى على الأمد بها. وقوله: "كأن الذي يسقي الثرى صرف قهوة ... ". البيت، شبه فيه إفشاء الأرض نوارها وخضرتها بالمطر بإفشاء الملاء أسراره المكتومة بالقهوة. وقوله: "ينم"، مستقبل من النميمة، يقال: ينم بكسر النون وضمها، والكسر أفصح. وقوله: "بوجه مقسم" أي محسن من القسام: وهو الحسن. وقوله: "فسلمي"، أراد: فأذعني لها وأقري بفضلها. ولعبد الملك بن نفيل قطعة محكمة في هذا المعنى كتب بها إلى المنصور بن أبي عامر_رحمه الله _بأرملاط: [الكامل]
انظر إلى حسن الزمان كأنما ... يلقاك عن بشر لوجهك مبشر
بكت السماء على الربا فتبسمت ... منها ثغور عن عقائل جوهر
أهدى الربيع إليه سكب سمائه ... فكسا الثرى من كل لون أزهر
ضحكت متون الأرض عند بكائه ... عن أبيض يقق يروق وأصفر
وكذاك لم تكشف سريرة روضة ... يوما بأفصح من غمام ممطر
غيث أرانا كل نور ضاحكا ... متطلقا منها بنور أنور
متبختر في مشيه فكأنه ... ثان لها عطفا وكاسر محجر
وكأنما زهر الرياض كواكب ... حسرت لنا عن كل أزهر مقمر
فصل السرور بقهوة مشمولة=تغنيك عن قبس ومسك أذفر شبه بشر الزمان ببشر وجه ممدوحه في أول بيت، وشبه ضياء الخمر بالقبس، وريحها بالمسك إذ أقامها مقامها في آخر بيت. وللكاتب أبي الأصبغ عيسى بن عبد الملك بن قزمان من جملة قصيد مطول قطعة في هذا المعنى، وهي إثر وصف البرق: [الكامل]
كم ذا ضميره من روضة ... والغيث ملآن بنور زاهر
يخفي ويضمره الحيا فكأنه ... بحر تستر فيه نور جواهر
حتى إذا ما عانق الروض الثرى ... طلعت أوائل نبته المتظاهر
متخالفات في الربا فنظائر ... حسنا وفي الألوان غير نظائر
ترنو إليك جفونها عن أعين ... أحلى وأملح من عيون جآذر
لا شيء أحسن منظرا إن قسته ... أو مخبرا من حسن روض ناضر
إن جئته أعطاك أجمل منظر ... أو غبت زادك في النسيم الحاضر
وقال أبو أيوب سليمان بن بطال المتلمس في هذا المعنى فأحسن: [المتقارب]
تبدت لنا الأرض مزهوة ... علينا ببهجة أثوابها
كأن أزاهرها أكؤس ... حدتها أنامل شرابها
كأن الغصون لها أذرع ... تناولها بعض أصحابها
وقد أعجب النور فيها الذباب ... فيهزج من فرط إعجابها
كأن تعانقها في الجنوب ... تعانق خود وأترابها
كأن ترقرق أجفانها ... بكاها لفرقة أحبابها
مزهوة، مفعولة، من الزهو، ومعناها متعجبة من حالها، متكبرة لجمالها. وترقرق الأجفان: امتلاؤها بالدمع. واستعار للنور أجفانا. وقال محمد بن مسعود البجاني فأحسن في الوصف كل الإحسان: [المنسرح]
أما ترى الأرض ألبست حللا ... من نسج أيدي السحائب الصوب
كأن أشجارها وقد كسيت ... بدائعًا من حليها المعجب
من أحمر كالعقيق منظره ... وأصفر كالفريد لم يثقب
وأبيض فوقه سقيط ندى ... كماء ورد في عنبر أشهب
وثمر في الغصون تحسبه ... جامد خمر في الجو لم يسكب
أو أنجم الشرق بان مطلعها ... فسرن من مشرق إلى مغرب
خرائد يلتقين في عرس ... تسكن حينا وتارة تلعب
والماء يجري خلال ساحتها ... كأنه جسم فضة ذوب
وللصبا نفخة تذكرنا ... طيب نسيم الصبا فما أطيب
والطير في أيكها مغردة ... كأنها في منابر تخطب
أعجب بها من نواطق خرس ... توجز حينا وتارة تسهب
تفهمني عجمة بألسنها ... معنى الكلام المبين المعرب
وللوزير أبي عامر بن شهيد_رحمه الله_في الربيع قطعة عجيبة من قصيدة طويلة مشتملة على أوصاف سواها مستغربة، ومعان [غيرها] مستعذبة، [والقطعة]: [مجزوء الكامل المرفل]
سهر الحيا برياضها ... فأسالها والنور نائم
حتى اغتدت زهراتها ... كالغيد باللج العوائم
من ثيبات لم تبل ... كشف الخدود ولا المعاصم
وصغار أبكار شكت ... خجلا فعاذت بالكمائم
حييت بطوفان الحيا ... فتضاحكت والجو واجم
أصناف زهر طوقت ... دررا تذوب بكف ناظم
1 / 3