ولن يلبث العرشان يستل منهما
خيار الأواسي أن يميل غماهما
ليلة وليلة
صحبت «عفريت الليل» إلى حفلة راقصة في مصر الجديدة، وكنت مدعوا لهذه الحفلة كما دعيت لأختها من قبل في شارع عماد الدين، وقد غالبت حيائي عند إجابة الدعوة الثانية، وخلقت لنفسي ما شاء الهوى من شتى المعاذير.
وإني لمحدثك عن المرقص الأول والمرقص الثاني، تلبية للصديق العزيز عفريت الليل، ولكني أتقدم هذا بإبلاغك ما جال في خاطري عند تسلم بطاقة الدعوة، فقد أعرف أني شيخ وأعرف أني في نفسي من حماة الدين الحنيف، والله عليم بذات الصدور، ولكني تذكرت بجانب ذلك أني صحفي، وأن المهنة تقضي علي بارتياد مواطن الشبهات، ومواقف التهم، لأرى كيف يعيش الناس، ولأقابل بين ما أراه على لوح الوجود، وما أراه على لوح التاريخ، وعندي أن الصحفي كالطبيب، فكما يجوز للطبيب أن يرى أجمل ما تستر المرأة ليقف على موقع الداء، يجوز للصحفي أن ينظر أغرب ما تكتم الأمة ليقف على موطن الداء، ولا فرق بين هذا وذاك، إلا أن الطبيب يعالج الجسوم، والصحفي يعالج العقول، فمن الجناية أن يتورع صحفي أو طبيب عن الوقوف على بواطن الأشياء، وهو عن فهمها مسئول.
وتذكرت أني كاتب، والكاتب كالمصور، لا غنى له عن رؤية كل مكنون، ولن يعذره أحد إذا أخفق في تصوير الغرائب المستورة، والعجائب المكنونة، بحجة الدين والأخلاق؛ لأن الفنان لا دين له إلا في قرارة نفسه، ولا خلق له إلا في أعماق ضميره، وهو غالبا فاسق النظر فاجر البيان!
ولئن جاز للطبيب أن يحجم عن إسعاف المريض إشفاقا على نفسه من رائحة الجراح القديمة، فقد يجوز للكاتب أن يحجم عن تعرف داء الأمة؛ رفقا بنفسه من مطالعة آثار الرذيلة، ولكنا نعرف أن الطبيب يجرم أفظع جرم إن نفر من رائحة الجروح، وليس جرم الكاتب بصغير إن نفرته مناظر الفاحشة عن درس الأصول الأولى للفاقة والبأساء. وكما أن الطبيب يمضي في العملية الجراحية غير حاسب أي حساب لما يسديه إليه المريض من الشتائم كلما آلمته المشارط؛ فإن الكاتب المخلص يضع «سمعته» نهبة لشتائم الصارخين من مرضى النفوس. وكلما آلمهم قلمه فسبوا وشتموا تذكر أن القلم في يده كالمبضع في يد الطبيب، وأنه يجب أن ينسى نفسه، وأن يعرف أن عدوه هو المرض الذي يحاربه في شخص المريض، وأن هذا المسكين لا يشتمه بصدق، وأنه سينظم له عقود الثناء بعد ذهاب الداء! •••
كانت الليلة الأولى في شارع عماد الدين، وكانت الليلة الثانية في مصر الجديدة، وكنت فيهما ذلك الفارسي الذي تخيله «مونتيسكيو» يجوس خلال باريس، فينكر الناس ما له من زي غريب، وينكر ما للناس من خلق غريب.
دعاني للمرة الأولى حسن أفندي فائق لأسمع أنشودته في صريع الكوكايين، فأجبت الدعوة كارها غير طائع، ولم أكد أدخل الملعب حتى التهمتني العيون، فمن قائل: جاء ليلقي عظة في النهي عن الموبقات، ومن قائل: يا عجبا للهو لم ينج من عدواه المعممون! فصحت فيهم إنما جئت لمقابلة حسن أفندي فائق صاحب أنشودة «شم الكوكايين» فتقدم إلي بعض العاملين في المسرح وقال: لقد انصرف حسن أفندي، وقد يعود بعد قليل، فإن شئت شربت فنجانا من الشاي وانتظرته حتى يعود، وكانت الليلة شاتية، وكان الشاي فيها خير مشروب، فأخذت أتخير مكانا بعيدا عن «همسات» الحاضرين و«غمزات» الحاضرات، وما هي إلا لحظة حتى صرخ صارخ: «اضبط! هذا صاحب مدامع العشاق» فالتفت فإذا عفريت الليل عن يميني، وابن الهوى عن شمالي، كأنهما منكر ونكير، أو رقيب وعتيد، قال عفريت الليل: من أتى بك ههنا؟ فقلت: وأنت من أتى بك ههنا؟ قال: أنا صحفي أحرر جريدة أسبوعية، فقلت: وأنا صحفي أحرر جريدة يومية، فما لك تشاركني في الفعل وتفردني بالعجب؟ ثم دعاني إلى تناول الشاي معه في مكان من الراقصات قريب.
جلسنا نتحدث، ولكني منحته أذنا غير واعية، وأقبلت بسمعي وبصري وقلبي على تلك القطع المختارة من شعر الوجود، فإن النساء يا صاح قصائد مسطورة في سجل الحياة، وأصحاب المراقص يتخيرون من هذه القصائد أعلقها بالنفس، وألصقها بالقلب، وقد خيل إلي ساعتئذ أني لم أحضر إلا لدرس هذه الطرف البديعة، لأتبين السر في «ضلال» من فتنته الخدود، وسحرته العيون، ولأعذر قتلى الحسن، وصرعى الجمال.
Bog aan la aqoon