أما المقلد فهو الذي يردد صلاة المصلين وابتهال المبتهلين بدون إرادة ولا عاطفة، فيترك اللغة حيث يجدها والبيان الشخصي حيث لا بيان ولا شخصية.
أعني بالشاعر ذاك الذي إن أحب امرأة انفردت روحه، وتنحت عن سبل البشر لتلبس أحلامها أجسادا من بهجة النهار وهول الليل وولولة العواصف وسكينة الأودية، ثم عادت لتضفر من اختباراتها إكليلا لرأس اللغة وتصوغ من اقتناعها قلادة لعنق اللغة.
أما المقلد فمقلد حتى في حبه وغزله وتشبيبه، فإن ذكر وجه حبيبته وعنقها قال: بدر وغزال، وإن خطر على باله شعرها وقدها ولحظها قال: ليل وغصن بان وسهام، وإن شكا قال: جفن ساهر وفجر بعيد وعذول قريب، وإن شاء أن يأتي بمعجزة بيانية قال: حبيبتي تستمطر لؤلؤ الدمع من نرجس العيون لتسقي ورد الخدود، وتعض على عناب أناملها ببرد أسنانها. يترنم صاحبنا البغاء بهذه الأغنية العتيقة وهو لا يدري أنه يسمم ببلادته اللغة ويمتهن بسخافته وابتذاله شرفها ونبالتها.
قد تكلمت عن المستنبط ونفعه، والعقيم وضرره، ولم أذكر أولئك الذين يصرفون حياتهم بوضع القواميس وتأليف المطولات وتشكيل المجامع اللغوية، لم أقل كلمة عن هؤلاء لاعتقادي بأنهم كالشاطئ بين مد اللغة وجزرها، وأن وظيفتهم لا تتعدى حد الغربلة. والغربلة وظيفة حسنة؛ ولكن، ما عسى يغربل المغربلون إذا كانت قوة الابتكار في الأمة لا تزرع غير الزوان ولا تحصد إلا الهشيم ولا تجمع على بيادرها سوى الشوك والقطرب.
أقول ثانية : إن حياة اللغة وتوحيدها وتعميمها وكل ما له علاقة بها قد كان وسيكون رهن خيال الشاعر، فهل عندنا شعراء؟
نعم، عندنا شعراء، وكل شرقي يستطيع أن يكون شاعرا في حقله وفي بستانه وأمام نوله وفي معبده وفوق منبره وبجانب مكتبته. كل شرقي يستطيع أن يعتق نفسه من سجن التقليد والتقاليد ويخرج إلى نور الشمس فيسير في موكب الحياة. كل شرقي يستطيع أن يستسلم إلى قوة الابتكار المختبئة في روحه، تلك القوة الأزلية الأبدية التي تقيم من الحجارة أبناء الله.
أما أولئك المنصرفون إلى نظم مواهبهم ونثرها فلهم أقول: ليكن لكم من مقاصدكم الخصوصية مانع عن اقتفاء أثر المتقدمين، فخير لكم وللغة العربية أن تبنوا كوخا حقيرا من ذاتكم الوضعية من أن تقيموا صرحا شاهقا من ذاتكم المقتبسة.
ليكن لكم من عزة نفوسكم زاجر عن نظم قصائد المديح والرثاء والتهنئة، فخير لكم وللغة العربية أن تموتوا مهملين محتقرين من أن تحرقوا قلوبكم بخورا أمام الأنصاب والأصنام.
ليكن لكم من حماستكم القومية دافع إلى تصوير الحياة الشرقية بما فيها من غرائب الألم وعجائب الفرح، فخير لكم وللغة العربية أن تتناولوا أبسط ما يتمثل لكم من الحوادث في محيطكم وتلبسوها حلة من خيالكم من أن تعربوا أجل وأجمل ما كتبه الغربيون.
ابن الفارض
Bog aan la aqoon