ولكن، لما فصلني الزورق عن ميناء بيروت، في الدقيقة التي وطئت فيها ظهر السفينة، شعرت بتغير في فضاء روحي، شعرت بيد خفية قوية تتمسك بساعدي وسمعت صوتا عميقا يهمس في أذني قائلا: ارجع، ارجع من حيث أتيت. انزل إلى الزورق وعد إلى شواطئ بلادك قبل أن تبحر السفينة.
وأبحرت السفينة وأنا على ظهرها أشبه شيء بعصفور بين مخالب باشق يسبح محلقا في الخلاء. ولما جاء المساء وقد انحجبت قمم لبنان وراء ضباب البحر، رأيتني واقفا وحدي على مقدمة السفينة وفتاة أحلامي - المرأة التي أحبها قلبي، المرأة التي رافقت شبابي - لم تكن معي. الصبية العذبة التي كنت أرى وجهها كلما حدقت إلى الفضاء، وأسمع صوتها كلما أصغيت إلى السكينة، وألمس يدها كلما مددت يدي إلى الأمام، لم تكن على ظهر تلك السفينة. لأول مرة، ولأول مرة وجدتني واقفا وحدي أمام الليل والبحر والفضاء.
وبقيت على هذه الحالة أنتقل من مكان إلى مكان مناديا رفيقتي في قلبي، ناظرا إلى الأمواج المتقلبة لعلي أرى وجهها في بياض الزبد.
وعندما انتصف الليل وقد التجأ ركاب السفينة إلى مراقدهم وبقيت أنا وحدي هائما ضائعا مضطربا، التفت بغتة فرأيتها واقفة في الضباب على بعد بضع خطوات فانتفضت مرتعشا ومددت يدي إليها هاتفا: لم تركتني؟ ... لم تركتني في وحدتي؟ إلى أين ذهبت؟ أين كنت يا رفيقتي؟ اقتربي، اقتربي مني ولا تتركيني بعد الآن.
فلم تدن مني، بل ظلت جامدة في مكانها ثم بدت على وجهها سيماء توجع ولهفة ما رأيت أهول منهما في حياتي، وبصوت خافت ضئيل قالت: جئت من أعماق اللجة لأراك لمحة واحدة. وها أنا راجعة إلى أعماق اللجة. ادخل مخدعك وارقد واحلم.
قالت هذه الكلمات وامتزجت بالضباب واضمحلت. فطفقت أناديها بلجاجة الطفل الجائع وأبسط ذراعي إلى كل ناحية فلا أقبض إلا على الهواء المثقل بندى الليل.
دخلت مخدعي وفي روحي عناصر تتقلب وتتصارع وتهبط وتتصاعد، فكنت في جوف تلك السفينة سفينة أخرى في بحر من اليأس والالتباس. وللغرابة أنني لم ألق رأسي على وسائد مضجعي حتى أحسست بثقل في أجفاني وبتخدر في جسدي فنمت نوما عميقا حتى الصباح. ولقد رأيت في نومي حلما. رأيت رفيقتي مصلوبة على شجرة تفاح مزهرة وقطرات الدماء تسيل من كفيها وقدميها على غصني الشجرة وعمدها ثم تنسكب على الأعشاب وتمتزج بأزهار الشجرة المنثورة.
وظلت السفينة تسعى الأيام والليالي بين اللجتين وأنا على ظهرها لا أدري ما إذا كنت بشرا مسافرا إلى بلد بعيد بمهمة بشرية أم شبحا تائها في فضاء خال إلا من الضباب، فلم أشعر بقرب رفيقتي ولم ألمح وجهها في اليقظة أو في المنام، وباطلا كنت أنادي مصليا مبتهلا للقوى الخفية لتسمعني من مقاطع صوتها، أو لتريني ظلا من ظلالها أو تجعلني أشعر بملامس أصابعها على جبهتي.
ومر أربعة عشر يوما وأنا في هذه الحالة. وعند ظهيرة اليوم الخامس عشر ظهرت عن بعد شواطئ إيطاليا، وفي مساء ذلك النهار دخلت السفينة ميناء البندقية وجاء قوم بزوارق مطلية بألوان ورسوم بهجة لينقلوا الركاب وأمتعتهم إلى المدينة.
أنتم تعلمون، يا رفاقي، أن البندقية قائمة على عشرات من الجزر الصغيرة المتقاربة، فشوارعها ترع ومنازلها وقصورها مبنية في الماء، والزوارق هناك تقوم مقام المركبات.
Bog aan la aqoon