Bilowga Khayaalka
بدائع الخيال
Noocyada
ترجمة حياة مؤلف الكتاب
الحكاية الأولى
الحكاية الثانية
الحكاية الثالثة
الحكاية الرابعة
الحكاية الخامسة
الحكاية السادسة
الحكاية السابعة
الحكاية الثامنة
الحكاية التاسعة
Bog aan la aqoon
الحكاية العاشرة
ترجمة حياة مؤلف الكتاب
الحكاية الأولى
الحكاية الثانية
الحكاية الثالثة
الحكاية الرابعة
الحكاية الخامسة
الحكاية السادسة
الحكاية السابعة
الحكاية الثامنة
Bog aan la aqoon
الحكاية التاسعة
الحكاية العاشرة
بدائع الخيال
بدائع الخيال
عشر قصص ممتعة للفيلسوف الروسي ليو تولستوي
تأليف
ليو تولستوي
ترجمة
عبد العزيز أمين الخانجي
مقدمة
Bog aan la aqoon
بقلم عبد العزيز أمين الخانجي
بسم الله الرحمن الرحيم
قارئي العزيز
أتقدم إليك شاكرا مغتبطا بالطبعة الثالثة من كتابي بدائع الخيال الذي يجمع بين دفتيه عشر قصص مختارة من مبتكرات الفيلسوف الروسي العظيم «ليو تولستوي» عربتها من كتاب بالإنجليزية عنوانه:
Twenty Three Tales From Tolostoy .
أما الشكر فللإقبال والتعضيد اللذين لقيهما الكتاب منذ إصدار طبعته الأولى في أواخر عام 1919، فطبعته الثانية في أوائل عام 1922.
وأما الاغتباط فلرواج الكتاب في زمن كثر فيه تهافت القراء على الغث من القصص الموضوعة أو المعربة، وفي زمن عمت فيه الشكوى من الفوضى السائدة في سوق الطباعة والنشر في مصر. وهذا الشعور يشاركني فيه أهل الغيرة من الراغبين في الإصلاح.
لقد تقدم الفن القصصي بين الأمم الغربية في يومنا هذا وأصبح من أعظم الوسائل التي يعتمد عليها رجال التفكير والإصلاح في بث آرائهم وأفكارهم وخلاصة أبحاثهم ونظراتهم في شئون الحياة. ولقد خرجت القصص بهذا التطور الجديد عن دائرة الغرض الذي وضعت من أجله؛ أي التسلية.
ولكن لمن الفضل في هذا التطور؟ الفضل بلا ريب عائد على القارئ ذاته، الذي أصبح لا يميل إلى قراءة الروايات التي تصور له الوقائع الدموية والمشاهدات العنيفة بين اللصوص ورجال الشرطة التي يدور عليهم محور القصة. أو التي تصور لهم مناقشات العذال ومجادلات الرقباء لحبيبين يجعلهما القصصي الشخصيتين اللتين يبني عليهما الحديث.
هذا النوع من القصص قد قضي عليه في أوروبا وجرفه تيار النوع الجديد الذي يجمع بين التسلية والإفادة، النوع الجديد الذي يرمي إلى بث الآراء الإصلاحية والأفكار والملاحظات الاجتماعية في الثوب القصصي.
Bog aan la aqoon
قد يقول قائل : إن الفرق بيننا وبينهم ما زال واسعا، وإن ناشري الكتب يجارون في تلك البلاد عقلية آخذة في مدارج الكمال، عقلية تستطيع أن تتذوق هذا النوع الجديد وأن تتفهم ما فيه من فكر ومغزى. ولكنني أقول إن هذه حجة واهية؛ لأن القارئ في بلادنا إذا كان يقرأ القصة لمجرد التسلية فإنه يجد بغيته في النوع القصصي الجديد أيضا، لا سيما إذا كانت القصة مكتوبة بلغة سهلة. فاللوم إذن يقع على الناشرين الذين أحدثوا في أسواق المطابع تلك الفوضى التي يشكو الجميع منها. ولكن لا تنس - أي قارئي العزيز - أن عليك نصيبا من هذا اللوم؛ لأن الناشر والمعرب والمؤلف والطابع كل هؤلاء إنما يأتمرون بأمرك ويتمشون مع رغبتك، فإن أردت أن ترغمهم على تقديم النافع الصالح وعرض الجديد الطيب من مبتكرات القوم فأعرض عما يقدمونه لك من القصص التافهة والروايات الغثة أمثال (وقائع كارتر) و(الحلقات البوليسية) و(مجموعات جونسون) وذيولها ... وروكامبول وأم روكامبول وابن روكامبول ... وما إلى ذلك من القصص التي إثمها أعظم من نفعها.
عاهدني أن تفعل ذلك منذ اليوم وأن تنشر الفكرة بين إخوانك وبني عشيرتك فلا تلبث أن ترى ثمرات هذا العهد بعد زمن قصير.
لقد أطلت عليك الحديث، وخرجت بك عن موضوع المقدمة دون أن أحدثك عن محتويات الكتاب ومزاياه كما هي العادة في المقدمات، ولكن ما لي والتعرض لهذا الأمر؛ فالكتاب بين يديك - وقد نقدت ثمنه بلا ريب - فاقرأه وانقده ووازن بين ما دفعته من ثمن وبين ما استفدته من مطالعته، فإذا وجدت نفسك رابحا فاطلب من المولى أن يعينني على السير في هذا السبيل، أما إن كنت تجده تافها لا يستحق ما بذلته أنا من وقت في التعريب وما صرفته أنت من وقت في القراءة؛ فعاملني إذ ذاك بجميل صنعك، واعلم أن لي من حسن النية خير شفيع، والسلام.
شارع النزهة
20 أكتوبر سنة 1926
ترجمة حياة مؤلف الكتاب
تمهيد
قد يتوالى كر الجديدين، وتمر الأيام والأعوام مر السحاب، طامسة بأقدامها رسوم الأجيال الماضية، والناس على ما هم عليه من فطرتهم الأصلية، مستسلمون لما ورثوه عن آبائهم من التقاليد والعادات مذمومة كانت أم مرضية، فاسدة أم صحيحة، ويظلون كذلك لا يفقهون معنى لما يرونه من المرئيات، ولا يحركون ساكنا لما يمر عليهم من صنوف العظات، إلى أن يمن الله عليهم بمن يميط اللثام عن سر ما جهلوه، ويكشف لهم الستار عن كنه ما لم يتحققوه، فينبههم من رقدتهم، ويرشدهم إلى ما كانوا عنه غافلين.
أولئك هم أقطاب العلم، ورسل التهذيب، ومهبط المدنية، ونور العرفان، بهم تهتدي الأمم، وعلى يدهم يتم صلاح الجماعات ونظام الشعوب، غير أن الدهر - وهو بخيل بأمثال هؤلاء الأقطاب - لا يكاد يجود بفرد منهم على رأس كل جيل حتى تنصب عليه سهام اللعنات من كل صوب، وتتلقاه الناس بالعداوة والبغضاء، والسبب واضح جلي؛ فالناس إذا استسلمت مدة من الزمان إلى بعض العادات الفاسدة، وتوارثت طوال الأجيال العاهات والأمراض النفسية بعضها عن بعض، تصبح بينهم من الصفات اللازمة، ولا ينظرون إليها إذ ذاك كعاهات وأمراض، بل يعتبرونها كخلال طبيعية أنزلها الله على آدم، فإذا ظهر بينهم من هو خال منها غير متحل بما ظنوه ناقصا ناصبوه العداء، ونابذوه الألقاب.
نظرة إلى كل من اشتهر بفضل أو عرف بشيء من النبل نعلم مقدار ما عانى من الدهر، وقاسى من مناوأة الناس في سبيل الحق، فهذه أئمة المسلمين وهداتهم؛ مثل: مالك، والشافعي، وفلاسفة هذه الأمة، ودعاة الصلاح فيها؛ كالمعري وابن رشد وابن تيمية، ومن تقدمهم وجاء بعدهم من فلاسفة اليونان والرومان والفرس وغيرهم من علماء المعقول والمنقول ممن لا تزال أشخاصهم ماثلة في أذهاننا، ولا نزال نستضيء بنبراسهم، قد نغص الدهر عليهم عيشهم، وضيق عليهم مذاهبهم؛ لشذوذهم عن المألوف، وخروجهم عن المعروف، ولم يرجعهم ما هم فيه عن سبيل رأوه هو سبيل الحق، بل ما زالوا في عراك وكفاح حتى لقوا ربهم فرحين بما قضوا من واجب الإرشاد عليهم، غير مكترثين بما لقوا في سبيل الواجب.
Bog aan la aqoon
والكونت تولستوي الذي أقدم إلى القراء ترجمة حياته (مقتضبة من دائرة المعارف البريطانية، ومجلة الهلال الغراء، وبعض المجلات التركية) هو أحد أولئك الأفراد القلائل الذين لا يكاد الدهر يجود بواحد منهم حتى يتفانى الناس في تمجيد خصاله، ويغرقوا في إجلال ذكره، وإكبار شأنه؛ إذ يعمل الفرد منهم على إسعاد نوع الإنسان، وترقية حال بني البشر أكثر مما يعمله المئات بل الألوف من معاصريه:
ولم أر أمثال الرجال تفاوتا
إلى الفضل حتى عد ألف بواحد
نشأته الأولى
تشغل حياة تولستوي ثلاثة أرباع القرن التاسع عشر وعشر سنين من فجر القرن العشرين؛ إذ كان ميلاده في الثامن والعشرين من شهر أغسطس عام 1828 في قرية (ياسنايا بوليانا) في ولاية طولا من أعمال روسيا، فأنت ترى أن شمس حياته بزغت في فجر القرن التاسع عشر، وعاش معاصرا لكثير من فحول العلماء والفلاسفة؛ مثل: هيجو، وغوته، وغيرهما من الذين ولدوا معه في فجر القرن، وغربت شموس حياتهم في أصيله.
وأسرته ألمانية الأصل، هاجرت في عهد بطرس الأكبر، واشتهر منها بطرس تولستوي الذي كان سفيرا لروسيا لدى الدولة العثمانية، وأدخل في مصاف الأشراف عام 1724، وكان لهذه الأسرة منزلة رفيعة بين الأسر الروسية؛ إذ اشتهر كثير من أبنائها بالسياسة، ونبغ آخرون منهم في فن الكتابة.
أما أمه فكانت من بيت مجد عريق في الحسب وشرف الأصل، يعرف بأسرة فولكون، وكانت القرية التي ولد فيها الفيلسوف ملكا لها؛ فأقامته فيها ليقضي أيام طفولته، ولكن وافاها القدر المحتوم وهو في إبان نشأته، فعهد بتربيته إلى سيدة من ذوات قرابته، وانتقل به والده إذ ذاك إلى مدينة موسكو، حيث عاجلته المنية قبل أن يبلغ الكونت العاشرة من عمره، فعهد بتربيته إلى سيدة أخرى من ذوات قرابته تدعى بوشكوفا؛ فعادت به إلى قرية ياسنايا مقر ولادته، وهناك تلقى دراسته الأولية.
تعليمه
وما كاد يبلغ الخامسة عشرة حتى انتقل إلى مدينة قازان، وانتظم في سلك جامعتها مدة عامين، توفر أثناءهما على دراسة بعض العلوم العالية، وفيها درس أيضا بعض اللغات الشرقية، غير أنه ما لبث أن عافت نفسه الجامعة ودروسها؛ لنفوره من أخلاق تلامذتها، فعاد إلى قريته ثانية، وأكب هناك على مطالعة كتب مشاهير المؤلفين والأدباء من الروسيين والفرنسيين والألمان؛ أمثال: روسو وهيجو وفولتير وديكنز وبوشكن وترجنيف وشيللر وغوطه، ولكنه كان أكثر تعلقا بمؤلفات روسو، فعاش عيشة مستقلة لا يحتاج فيها إلى مرشد ولا مؤدب إلا الدهر وحوادث الأيام وتتبعاته الشخصية.
أوائل شبابه
Bog aan la aqoon
وقد أخذت الاعتبارات الفلسفية تشغل أفكاره في أوائل شبابه؛ فكان شغله الشاغل أيام صباه هو التفكير في (ما هو الإنسان؟) و(من أين أتى؟) و(إلى أين مصيره؟) و(ما هي السعادة؟) إلى غير ذلك من المسائل الفلسفية العويصة التي كانت ترد مخيلته تباعا؛ آخذة بعضها برقاب بعض، حتى نشأ عنده ميل خاص للمباحثات والمناظرات، فكان يقضي طوال الساعات والأيام في مجادلة أقرانه ومناقشتهم فيما يعرض له من الأفكار.
انتظامه في سلك الجندية
وبينما كان الفيلسوف الشاب على الحال التي وصفناها لك حائرا بين تأثيرات الطبيعة وموحيات الكتب والأسفار؛ إذ زاره شقيق له أكبر منه سنا في قرية (ياسنايا) وكان شقيقه هذا من ضباط الجند الروسي ببلاد القوقاز، فوصف له حالة الجند وما هم عليه من نضارة العيش ورفاهة الحال، وما زال به يحسن له حالته ويرغبه الانتظام بسلكهم حتى رضي وأطاع شقيقه فأصبح في عداد الضباط وهو في الثالثة والعشرين من عمره، وعند نشوب حرب القرم انتقل إلى الطونة وانضم إلى أركان حرب البرنس غورتشاكوف، ثم انتقل إلى سباستبول؛ حيث عين قائدا لفرقة من المدفعية، وكان لانتقاله من بيئة لأخرى أثر كبير في إثارة قريحته، وتوسيع خياله، فتغيرت أطواره، وتحولت كليته، وتبطنت أعماق نفسه بانفعالات كثيرة ظهر على أثرها أهم مؤلفاته التي يصف فيها حالة الجند، وأهوال الحروب، وما يكابده الإنسان من فظائعها.
رحلته وزواجه
وفي العقد الرابع من سني حياته تطلع إلى السفر، فسافر سنة 1862 وساح في بعض أنحاء أوروبا، ثم رجع إلى قريته واقترن في العام الثاني بالسيدة صوفيا ابنة الدكتور بيرس الألماني الذي كان يقيم في موسكو؛ فاضطر تولستوي أن يداول السكنى بينها وبين قريته، وكانت قد نضجت مواهبه واتسعت معلوماته؛ لكثرة ما شاهده واختبره بنفسه، وكانت الحكومة قد عينته قاضيا في قريته، فبدأ بنشر تعاليمه، وأخذ يدعو الناس إلى السلام والفضيلة؛ سواء بالقدوة أو بالتعليم.
عيشته اليومية
وقد اشتهر بزهده في الحياة وتخليه عن مظاهر الوجاهة؛ فكان في قريته مع زوجته وأولاده في منزل بسيط محاط بغابة كثيفة ليس فيه من الأثاث إلا الضروري، فكان يقوم مبكرا فيلبس ثوبا بسيطا مثل أثواب الفلاحين، وهو عبارة عن سراويل واسعة فوقها كساء كالقميص يتمنطق حوله بسير من الجلد.
وكان يتناول طعام الإفطار، ثم يذهب إلى العمل في حرث الأرض، وتعهد أشجارها، وبذر الحبوب، ومساعدة ضعفاء الفلاحين في أعمالهم.
سيرته بين فلاحيه
كانوا يعجبون بتواضعه ويستأنسون بدعته ولطف شمائله، فإذا وقع بينهم خلاف تقاضوا إليه وارتضوا حكمه، وكان قد أنشأ في قريته مدرسة ينفق عليها من ماله الخاص لتعليم أبناء الفلاحين، وكان يتولى تعليمهم بنفسه؛ فاشتهرت المدرسة وقصدها أهل المدائن الأخرى المجاورة يلتمسون الاستفادة من آرائه وفلسفته، وأنشأ لهم أيضا مجلة تهذيبية تصدر باسم القرية، وقد بلغ من محبته لفلاحي قريته أنه أراد أن ينبذ فكرة الاستئثار بالملك الشخصي، وأحب أن يوزع أملاكه بينهم بالتساوي فيشتغل كواحد منهم، ولكن زوجته وذوي قرابته أبوا عليه ذلك، تلك كانت حاله بالصيف، أما في الشتاء فكان يقيم في موسكو؛ فينقطع عن الأعمال البدنية، ويتفرغ للتأليف والتحبير؛ فيؤلف ويراسل ويكاتب.
Bog aan la aqoon
حياته العلمية
لا نكاد نذكر اسم تولستوي حتى يخطر على البال مؤلفاته العديدة ورسائله المتنوعة؛ وأشهرها: (الحرب والسلم) و(البعث) و(حنا كرانينا) و(القيامة) و(أين المخرج؟) و(الحب والزواج) و(بم يعيش الناس؟) و(ديانة المسيح) و(الحياة) و(مملكة الظلام)، غير أننا لا نكون مبالغين إذا قلنا: إن لرواياته الثلاث الأولى؛ وهي: (الحرب والسلم) و(البعث) و(حنا كرانينا) القدح المعلى، والمكانة السامية في عالم الأدب والتأليف، لا فى الروسيا فقط؛ بل في جميع العالم الأوروبي، ولا مراء في أن هذه الروايات الثلاث هي الدرة اليتيمة وواسطة القلادة بين درر مؤلفاته وغوالي حكمه؛ فإن رواية (حنا كرانينا) تمتاز بدقة البحث في تصوير ما يحصل عادة في عالم الزواج من الآلام والاضطرابات التي منشؤها عدم التروي والمضي مع الأهواء النفسية، وفي روايته (البعث بعد الموت) وصف الأمراض الاجتماعية وصورها بكل ألوانها ومعانيها، مع ذكر كيف أن الناس في هذا العصر أصبحوا يتنشقون سموم الظلم والاستبداد، ويتجرعون كئوسا ملؤها الكذب والرياء بدل استنشاقهم الهواء وشربهم الماء، وفي هذه الرواية يقول الناقد الفرنسي المعروف جول لومتر: «كتب تولستوي روايتيه (الحرب والسلم) و(حنا كرانينا)، ثم خجل من الشهرة وبعد الصيت اللذين نالهما أثر ظهورهما فاحتجب في كسر داره، واختفى بين صحائف الإنجيل مدة خمسة عشر عاما، ثم ظهر في عالم الأدب ثانية وفي يده أعجوبة مؤلفاته «كتاب البعث بعد الموت».»
ولو أمعنا النظر في حياة تولستوي المعنوية نرى أنها بكل ألوانها ومظاهرها، سياسية كانت أم اجتماعية، دينية أم خلقية؛ عبارة عن سلسلة حروب شعواء كان يشنها ذلك الرجل العظيم ضد الظلم والاستبداد، ومفاسد المدنية الحاضرة ورذائلها، فكان يرى رأي روسو القائل بأن صلاح الناس أو فسادهم إنما يدخل عليهم من باب المعاشرة والمخالطة، ويسلك إليهم من طريق البيئة والجوار، ثم نظر إلى المدنية الحاضرة المشعشعة بالأنوار الكاذبة، وفطن إلى ما تحت تلك الأضواء من ظلمة المفاسد والرذائل، وعلم أن التبعة في فساد نظام الاجتماع واقع على الرئاسات الدينية والسياسية، فوقف حياته على إيقاظ إخوانه في الإنسانية، وقضى معظم حياته يدعو الناس إلى دينه الجديد (Religion de la bonté)
وأساسه إيجاد رابطة المحبة والشفقة بين الناس، وعدم مقابلة الشر بمثله؛ ولذا نرى أن روح هذا المبدأ تتجلى في أغلب كتبه وتعاليمه التي تكاد تنطق بلسان واحد هاتين الكلمتين؛ وهما: (1)
أحبوا بعضكم بعضا. (2)
لا تقابلوا الشر بمثله.
مقارنة بينه وبين أبي العلاء
ذهب بعض كتاب أوروبا إلى وجود الشبه بين تولستوي وبين روسو، وعزز رأيه بأدلة لا محل لذكرها في هذه المقدمة الوجيزة، وإنا نرى أنه من الظلم أن نختم مقدمتنا دون أن نذكر ما رأيناه من وجوه الشبه بين حياة صاحب الترجمة وحياة أبي العلاء المعري المولود سنة 973م، فكلا الرجلين عاش زاهدا في الحياة، وكلاهما ناله من اضطهاد رجال الدين ما نغص عليه عيشه، وضيق دونه المذاهب، ولكليهما آراء في الحياة، ونظرات في الاجتماع تتفق معنى ومبنى.
اشتهر تولستوي بزهده في الحياة وتخليه عن مظاهر الوجاهة على نحو ما مر بك في مقدمتنا هذه؛ كذلك كان أبو العلاء زاهدا في الحياة متخليا عن ملذاتها؛ يردد قوله:
أتتني من الأيام ستون حجة
Bog aan la aqoon
وما أمسكت كفاي ثني عنان
ولا كان لي دار ولا ربع منزل
وما مسني من ذاك روع جنان
تذكرت أني هالك وابن هالك
فهانت علي الأرض والثقلان
إلا أنهما وإن زهدا في كل لذات الحياة، فقد رغبا في العلم والتأليف اللذين قد ملكاهما، واستأثرا بهما، ولا شك أن ذلك كلفهما معاشرة الناس ومجاملتهم إلى حد معلوم؛ فإن أبا العلاء كان مضطرا إلى عشرة الناس؛ لاحتياجه إلى من يقرأ له، ويكتب عنه، ولذلك لم يكد يستقر في المعرة حتى اشتغل بالتعليم؛ فالتف حوله الطلاب من جميع الأطراف، كذلك كان تولستوي مضطرا لمجاملة زواره العديدين الذين كانوا يقصدونه من أقاصي البلاد يلتمسون الاستفادة من فلسفته وآرائه.
وصف الرحالة ناصري خسرو أبا العلاء المعري بقوله: «ويحكمها (أي المعرة) رجل ضرير يعرف بأبي العلاء عظيم الثروة، يملك عددا ضخما من العبيد، وكان سكان المدينة كافة خدمه، أما هو فيحيا حياة خشنة، يلبس غليظ الصوف، ولا يغادر بيته، ولا يأكل إلا الشعير، وسمعت الناس يتحدثون بأن بابه لا يغلق وأن نوابه يعملون في تدبير المدينة، ولا يلجئون إليه إلا في مهام الأمور إلخ.» ولو صح هذا الوصف - وهو ما أثبت احتماله العلامة طه حسين في كتاب (ذكرى أبي العلاء) صحيفة 230 بقوله: «فمن الظلم للتاريخ أن نمر بهذا الخبر من غير أن نثبت هذا الاحتمال.» - لكان مشابها للمعيشة التي كان يعيشها الفيلسوف تولستوي في قريته بين فلاحيه ومريديه.
1
كان تولستوي يرى أن نظام الاجتماع فاسد يحتاج إلى إصلاح، وأن فساده ناجم عن الرئاسات الدينية والسياسية، كذلك كان يرى أبو العلاء وصرح بهذا الرأي غير مرة في اللزوميات وسقط الزند؛ فمن ذلك قوله:
ساس الأنام شياطين مسلطة
Bog aan la aqoon
في كل مصر من الوالين شيطان
وكذلك قوله:
مل المقام فكم أعاشر أمة
أمرت بغير صلاحها أمراؤها
ظلموا الرعية واستجازوا كيدها
فعدوا مصالحها وهم أجراؤها
رأي تولستوي في المرأة قبيح؛ لأنه يسيء الظن بها في كل أطوارها، ويرى أن تقطع كل علاقة بينها وبين الحياة العامة؛ فمن ذلك قوله: «على الرجل أن يراقب سلوك امرأته ولا يطلق لها العنان، بل يحجبها في البيت، والبيت دائرة حرية واسعة للمرأة.» وقال في موضع آخر في الزواج: «إن الزواج أصبح في عصرنا هذا بيننا محض خداع وغش، ولكنه لا يزال يوجد عند أولئك الذين يرون فيه سرا من أسرار الدين؛ كالمسلمين، والصينيين، والهنود، أما نحن فلا نرى فيه غير تلك المقارنة الحيوانية.»
ولأبي العلاء رأي في المرأة كثير المطابقة لرأي تولستوي، فهو كثير الظن بها ويرى أن تعيش بمعزل عن الحياة العامة، وتشدد في طلب الحجاب كما أشار في قوله:
علموهن النسج والغزل والرد
ن وخلوا كتابة وقراءه
Bog aan la aqoon
وكذلك قوله:
فحمل مغازل النسوان أولى
بهن من اليراع مقلمات
ومنه قوله في التائية:
ولا ترجع بإيماء سلاما
على بيض أشرن مسلمات
أولات الظلم جئن بشر ظلم
وقد واجهننا متظلمات
فوارس فتنة أعلام غي
لقينك بالأساور معلمات
Bog aan la aqoon
ذكرنا آنفا كيف أن تولستوي نبذ الاعتقاد القائل بالاستئثار الشخصي، وأراد أن يقسم أملاكه بين فلاحيه ويشتغل كواحد منهم، فكأنه بذلك يعزز رأي أبي العلاء القائل:
كيف لا يشرك المضيقين في النع
مة قوم عليهم النعماء
وأقواله في هذا المعنى كثيرة يقف عليها القارئ في أكثر (لزومياته).
إلى هنا ننتهي من المقارنة بين أفكار بطلي القرن التاسع والقرن العشرين بعد الميلاد، وإلى هذا الحد نكون قد أنجزنا ما وعدنا به القارئ من ترجمة حياة فيلسوف روسيا العظيم (الكونت لاون تولستوي) الذي أفل نجم حياته في 20 نوفمبر عام 1910، ليكون على بينة من تاريخ حياة أحد رجال العالم العظماء الذين أفادوا النوع الإنساني بأفكارهم الصالحة، وسيرتهم المبرورة، وسريرتهم الطاهرة.
قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي بك في رثاء الفيلسوف (تولستوي) تجري آية العلم دمعها
عليك ويبكي بائس وفقير
وشعب ضعيف الركن زال نصيره
وما كل يوم للضعيف نصير
ويندب فلاحون أنت منارهم
Bog aan la aqoon
وأنت سراج غيبوه منير
يعانون في الأكواخ ظلما وظلمة
ولا يملكون البث وهو يسير
تطوف كعيسى بالحنان وبالرضا
عليهم وتغشى دورهم وتزور
ويأسى عليك الدين إذ لك لبه
وللخادمين الناقمين قشور
أيكفر بالإنجيل من تلك كتبه
أناجيل منها منذر وبشير
تناول ناعيك البلاد كأنه
Bog aan la aqoon
يراع له في راحتيك صرير
وقيل تولى (الشيخ) في الأرض هائما
وقيل بدير الراهبات أسير
وقيل قضى لم يغن عنه طبيبه
وللطب من بطش القضاء عذير
إذا أنت جاورت (المعري) في الثرى
وجاور (رضوى) في التراب ثبير
وأقبل جمع الخالدين عليكما
وغالى بمقدار النظير نظير
جماجم تحت الأرض عطرها شذى
Bog aan la aqoon
خباهن مسك فوقها وعبير
بهن يباهي بطن (حواء) واحتوى
عليهن بطن الأرض وهو فخور
فقل يا حكيم الدهر حدث عن البلى
فأنت عليم بالأمور خبير
أحطت من الموتى قديما وحادثا
بما لم يحصل منكر ونكير
طوانا الذي يطوي السماوات في غد
وينشر بعد الطي وهو قدير
تقادم عهدانا على الموت واستوى
Bog aan la aqoon
طويل زمان في البلى وقصير
وهل عالج الأحياء بؤسا وشقوة
وقل فساد بينهم وشرور
قم انظر وأنت المالئ الأرض حكمة
أأجدى نظيم أم أفاد نثير
أناس كما تدري ودنيا بحالها
ودهر رخي تارة وعسير
وأحوال خلق غابر متجدد
تشابه فيها أول وأخير
تمر تباعا في الحياة كأنها
Bog aan la aqoon
ملاعب لا ترخى لهن ستور
وحرص على الدنيا وميل مع الهوى
وغش وإفك في الحياة وزور
وقام مقام الفرد في كل أمة
على الحكم جمع يستبد غفير
وحور قول الناس مولى وعبده
إلى قولهم مستأجر وأجير
وأضحى نفوذ المال لا أمر في الورى
ولا نهي إلا ما يرى ويشير
تساس حكومات به وممالك
Bog aan la aqoon
ويذعن أقيال له وصدور
وعصر بنوه في السلاح وحرصه
على السلم يجري ذكرها ويدير
ومن عجب في ظلها وهو وارف
يصادف شعبا آمنا فيغير
ويأخذ من قوت الفقير وكسبه
ويؤوي جيوشا كالحصى ويمير
ولما استقل البر والبحر مذهبا
تعلق أسباب السماء يطير
هوامش
Bog aan la aqoon
الحكاية الأولى
بم يعيش الناس؟
كان سيمون صانع أحذية لا يملك من الأرض قيد شبر، وكان يقطن كوخا لأحد الفلاحين ويعيش من كسب يده، لقد كان العمل إذ ذاك كاسدا وحركته خامدة، وزاد الطين بلة أن سبل العيش كانت مجهدة، ونار الغلاء متأججة في كل حاجيات الحياة؛ لذلك كان كل ما يقبضه سيمون ثمنا لعرق جبينه ينفقه في سبيل الحصول على قوت يتبلغان به هو وزوجه.
لم يكن لذلك الشيخ وزوجه إلا غطاء جلدي يتقاسمانه سويا؛ ليدفع عنهما قر الشتاء، ولقد استنهرت فتوق ذلك الغطاء فكان هذا هو العام الثاني الذي احتاجا فيه إلى شراء غطاء آخر، لذلك خرج سيمون متوكئا على عصاه موليا وجهه شطر القرية؛ حيث يمكنه أن يجمع من بعض القرويين ما هم مدينون به من النقود، فوفى له بعضهم، وأمهله البعض، ونقده أحدهم عشرين كوبكا،
1
فلم يكن ذلك المبلغ كافيا لشراء الغطاء، ولكنه كاف لأن يدفعه سيمون ثمنا لبعض كئوس من الفوتكا،
2
بعدئذ قفل راجعا إلى منزله كسير القلب، وأخذ يهذي في طريقه؛ تارة عن غضب زوجه وسخطها عليه، وآونة يخاطب القروي الذي أعطاه عشرين (كوبكا) قائلا: «قف قليلا! وانقدني كل ما أنت مدين به. إنك أعطيتني عشرين (كوبكا) فقط وادعيت الفاقة، ولكن ماذا يهمني؟ وماذا عساي أن أفعل بهذا المبلغ؟! إنك تملك دورا وماشية، وأما أنا فلا أملك إلا ما أسد به الرمق، إنك تملك الحقول الغنية بالحب والثمر، وأما أنا فأشتري كل حبة من قوت يومي، إنك تستزيد من كل شيء وأما أنا فأحتاج إلى أقل شيء؛ فأنت مترف ذو نعمة، وأنا شقي ذو متربة، إذن يجب أن تدفع، هلم لا تتردد.»
وما وصل من هذيانه إلى هذا الحد حتى كان قد انتهى إلى معبد مقام عند منعطف الطريق، فنظر وإذا به يرى شبحا أبيض يلوح وراء المعبد، فلم يتبينه تماما؛ لأن طلائع الليل أخذت تطرد جيوش النهار من تلك البطاح والوديان ثم أخذ يسائل نفسه: «ما عسى أن يكون هذا الشبح؟ إنه حجر أبيض، ولكني لم أشاهد هنا حجرا قبل الآن، ألا يكون نورا إذا؟ ولكن لا، فإن رأسه تماثل رأس الإنسان إلا أنها ناصعة البياض، وما عسى أن يفعل الإنسان هناك؟» ثم اقترب من الشبح قليلا قليلا حتى تجلت أمامه حقيقته، وزال ما خامر فؤاده من الريب.
ماذا رأى؟ رأى رجلا عاري الجسد جالسا بانحناء وراء المعبد لا حراك به، فتوجس سيمون من نفسه خيفة، وهاله ذلك المنظر، وظن أن أحد القرويين ظفر به فقتله ثم تركه في تلك البقعة، فأوسع خطاه، وسار من أمام المعبد حتى لا يمر بالشبح، ثم حانت منه التفاتة إلى الوراء فرأى الرجل يتبعه بنظراته فدب في قلبه دبيب من الرعب والإشفاق، وأخذ يفكر فيما إذا كان يرجع إليه ليستقصي خبره ويستفسر عن حاله، أو يستمر في طريقه، فآثر الأخرى، وظن أنه إن دنا منه فهو ليس بناج من شروره، وأيضا فهو غير قادر على إغاثة رجل عاري الجسد!
Bog aan la aqoon
ما خطا سيمون بضع خطوات حتى شعر بتقريع الضمير، وأخذ يسائل نفسه: «ماذا أنت فاعل يا سيمون؟! أتهرب من إغاثة ملهوف ربما كان على شفا الموت؟! أتعدو خوفا من أن تساعد نفسا ربما كانت تلفظ آخر أنفاسها؟! إنه من العار أن يقال عن سيمون إنه مر في طريقه ببائس فلم ينجده، وملهوف فلم يغثه.» ثم قفل راجعا نحو ذلك الغريب المسكين واقترب منه فلم ينتبه إليه كأنما بلغ به الضعف إلى درجة لم يمكنه معها أن يرفع جفنيه أو يدير عينيه، وتأمله فرآه فتى في مقتبل العمر صحيح الجسم لا تشوبه الكلوم ولا تشوهه القروح، ثم اقترب منه ثانية فتحرك الغريب وأدار رأسه الأبيض وفتح عينيه الفاترتين وألقى نظرة على وجه سيمون فكانت كافية لأن تبعث في قلبه الرحمة على ذلك الغريب، وتملأ فؤاده رفقا وحنانا على هذا البائس المسكين.
ثم ألبسه بعض ثيابه وأمره بالحركة حتى يتمشى الدم بين أعضائه، وبدأ في المسير فأخذ سيمون يسأله: «من أين أنت؟ وما الذي حدا بك إلى هذا المكان؟ أطرقتك بوائق الأحداث، أم هل وصلت إليك أيدي المسيئين حتى دفنت حيا بين طبقات الجليد المتجمدة؟» فأجابه قائلا: «إني غريب عن هذه الديار، ولم يسئ إلي أحد ما، ولكنه عقاب الله حق علي.» فأجاب سيمون: «يجب أيها الصديق أن تقابل ذلك بالرضاء والتسليم؛ فالله رب الكل، بيده كل شيء، وهو على كل شيء قدير، والآن أي جهة تقصد؟» - «كل الجهات عندي سواء.»
فبدرت على سيمون علامات الاندهاش؛ لأن الرجل لم تكن هيئته تشف عن خبث، ولم يدل مظهره على أنه من السفلة. واستمر سيمون في حديثه قائلا: «هلم معي إذا إلى المنزل؛ ريثما تدفئ نفسك قليلا.» ثم سارا سويا وأخذ سيمون يهينم قائلا: «إني ذهبت لشراء الغطاء فعدت إلى منزلي بدونه؛ وزيادة على ذلك أحضرت معي رجلا عاري الجسد؛ إن ماتروينا
3
ليغلي مرجل حقدها عندما تعلم ذلك.» وكان كلما عاودته ذكرى زوجته يطرق برأسه عابسا، ولكنه كلما تذكر حالة ذلك المسكين ونظراته المؤلمة عاودته بشاشته، وطفح ثغره فرحا وسرورا.
أما (ماتروينا) فقد أنهت كل واجباتها المنزلية في ذلك الصباح، وجلست تفكر في زوجها، وما عسى أن يكون قد فعل، وإذا بها ترى رجلين مقبلين: أحدهما سيمون، والآخر غريب لم تعرفه، فدار بخلدها لأول وهلة أن زوجها احتسى بعض كئوس من الخمر، وما الآخر إلا من أعوانه السكيرين، ثم بدأت تصخب، ولكنها انتظرت ريثما ترى ماذا يصنعان. دخل سيمون منكس الرأس خجلا، ثم تبعه صديقه الذي ظل واقفا صامتا لا يبدي حراكا، فلم تتردد ماتروينا في أنه من السفلة الأشرار، أما سيمون فقد خلع قبعته واستوى جالسا على أحد المقاعد كأن المياه ما زالت جارية في مجاريها ولم يحدث شيء يثير غضب زوجه، ثم دعا صديقه ليجلس بقربه ففعل، ثم خاطبها قائلا: «الآن يا ماتروينا قدمي لنا ما عندك من العشاء.» فنظرت إليه شررا، وازداد حنقها وأجابته: «إني أعددت كل شيء، ولكن ليس للسكارى الذين تلعب برءوسهم الخمر فتخرجهم عن المألوف.» - «ماتروينا! لا تكثري من تهدجك، وضعي حدا لثرثرتك، يجب أن تعرفي أولا من هو هذا الرجل.»
فأجابته: «إني لا أشك في أنه من أبناء الشريرين.» فقال: «كلا، فأنت مخطئة.» فقاطعته قائلة: «وأين النقود؟» فصمت سيمون فكان ذلك برهانا زاد اعتقادها فيهما، وداعيا قويا حرك فيها عوامل السخط، فأخذت تقدح من عينيها شررا، وتلفظ من فيها كلمات كلها مقت وغضب، وحاولت الخروج، إلا أنها كانت تود أن تقف على حقيقة أمر الغريب، فخففت من حدتها قليلا وانتظرت ... ثم ابتدرته قائلة: «إذا لم يكن هذا الرجل كما أعتقد، فمن يكون؟!» - «هذا ما أردت أن أوقفك على حقيقته من بادئ الأمر، فاعلمي أنني عندما وصلت إلى المعبد في رجوعي من القرية رأيت هذا الرجل جالسا بين طبقات الجليد المتجمدة؛ لا ثوب يكسيه، ولا دثار يدفع عنه غائلة البرد، فأشفقت عليه ودثرته كما ترين ثم آويته إلى هنا، ولو لم يرسلني الله في تلك الآونة لكان قضى نحبه لوقته؛ فخففي من وطأة حدتك، واعلمي أنها خطيئة كبرى يا ماتروينا، وتذكري أننا سنموت جميعا يوما من الأيام.»
فتمتمت ماتروينا ببعض كلمات يشتم منها رائحة الغضب، وألقت نظرة على الغريب، وظلت صامتة. - «ماتروينا! ألا توجد في قلبك عاطفة المحبة - محبة الله؟!»
وما سمعت هذه الكلمات من زوجها حتى نظرت إلى ذلك الضيف الغريب ثانية فشعرت بعاطفة الرحمة نحوه، وقامت لوقتها وأحضرت البقية الباقية مما عندها من الطعام، وقدمته لذلك المسكين الذي دفع ثمنه نظرة فاترة وابتسامة لطيفة عبرت عما في نفسه من الشكر والثناء، وبعد الانتهاء من أكله أخذت ماتروينا تعيد إلى مسامعه نفس الأسئلة التي سأله إياها زوجها من قبل، فأجابها بمثل ما أجاب زوجها، وختم إجابته بقوله: «إن زوجك دثرني وآواني، وأنت أسقيتني وأطعمتني، فالله يؤتيكما خيرا.» ثم باتا وأصبحا فسأله سيمون: «ما الذي يمكنك أن تباشره من الأعمال؟» فأجابه: «ليس بيدي صنعة ما.» فاستمر سيمون في كلامه: «إن من يريد أن يعمل فليس من الصعب عليه ذلك.» فأجابه: «سأتعلم.» فبدأ سيمون يعلمه كل يوم درسا من صناعته، وكان ميكائيل
4
Bog aan la aqoon