4
فلم يبع فيها وها نحن أولاء عائدون به إلى مكة، ولعلك قد رأيت جمالا تتصل بنا ساعة نزلناها. قال: لم أر شيئا، فقد كنت مشغولا بحمولي ساعة نهضتنا، ولكن ما قولكم في أن أشتري طعامكم هذا، وما تحملون من كساء، وأدفع لكم فيه ما طلبتم قبل أن تدخلوا به مكة؟ آخذها لنفسي لأتاجر فيها وأرتزق؟ وأريحكم من عناء تصريفها، وتضييق قريش عليكم في بيعها؟ قالوا: نشكرك إن فعلت. قال: وإني لراغب حقا، وإذ إني أريد أن أجازف فأبيعها لبني هاشم الليلة وقريش مشغولون بإنزال القافلة في الأبطح، فإني أرجو منكم أن تساعدوني على ذلك بأمر لا يكلفكم مشقة، بل يريحكم من الآن. قالوا: وما هذا؟ قال أن تتئدوا في سيركم مجانبين حتى تنحدروا إلى ذيل القافلة وأطراف ذيلها، ثم تنقطعوا عنها. فإذا سارت القافلة وتقدمتكم، واشتغلت قريش بأمرها عطفتم على طريق أجياد. قالوا: هذا شأنك وفيه راحة لنا. على أنا لا نكره أن يصل إلى الحنفاء الموحدين بالله مثلنا رزق كهذا برضانا. قال: شكرا لكم. على هذا اتفقوا، فتأخروا وانقطعوا ووقفوا الجمال، ودفع لهم ورقة ثمن ما يحملون، واتفقوا على أن يسير هو بجمالهم وجمالتهم؛ لينزل حموله حيث يشاء، ثم يردها إليهم، وعلى ذلك نزلوا في منعطف أجياد، وسار هو بالجمال حيث أراد.
اشتغلت قريش بالقافلة، فأنزلوها في أبطح بني كنانة، وأقاموا عليها الحراس بالليل؛ ليمنعوا بني هاشم أن يشتروا من أهلها، كما أقاموهم بالنهار لذلك، وهم يزعمون أنهم دبروا ما يجب لإجاعة أهل بيت النبي وعشيرته، وأنهم يوشكون لهذا أن يسلموا إليهم سيدهم ونبي الله؛ ليقتلوه لقاء لقيمات يسمحون لهم بشرائها من الأسواق.
ولكن الله كان يخيب فألهم حين يؤملون، ويرد كيدهم في نحورهم حين يبيتون؛ فقد كان ورقة يسير بجمال الطعام والكساء في تلك الساعة على مدرج جبال أبي قبيس قاصدا حصن أبي طالب من وراء البيوت، وإذ كان منزله وراء الحصن في طريقه إلى دار رسول الله فقد وقف بعرانه عنده، ودق على أمه الباب ففتحته، وقبلها وقبلته، وسألها عن مكان مولاتها سيدة المؤمنين من الشعب فدلته عليه حين دخل على باقوم فقبل يده واعتذر له من اضطراره إلى تركه قليلا، ثم استودع أبويه بضاعته وجمالته؛ ليدخلوا عقاقيره في الدار، وجماله في مربط جواده، وانصرف على الفور إلى بيت سيدة قريش، من حصن أبي طالب.
كان ورقة يعرف هذا الحصن معرفة تامة؛ لكثرة ما ذهب إليه في أيام طفولته ومراهقته، وكان يعلم أن له مدخلا عجيبا، شقا من شقوق أبي قبيس يفضي إلى رحبة واسعة تكاد تكون مربعة، وأن للحصن على هذه الرحبة بابا لا يستعملونه كثيرا؛ لأنه إن أدى إلى شيء فإلى ظهر جبل أبي قبيس، لا إلى سوق مكة وبيت الله، ولكن هذا الباب كان أقرب إلى البيت الذي نزل فيه رسول الله بأهله، ولذلك قصد إليه ورقة، وأدخل الجمال في تلك الحظيرة الموفقة، وكان صوت الجمال قد نبه الآذان، ففتح زيد بن حارثة باب الحصن محاذرا، وإذ رأى ورقة، ورأى الجمال تملأ الرحبة صاح مكبرا: الله أكبر. الله أكبر! وجاء أهل البيت؛ ليروا ماذا حدث ...
ثم لاحت سيدته سيدة المؤمنين خديجة وبنات رسول الله فهرع إليهن ورقة يقبل أيديهن جميعا، وهو يقول: بأبي أنتن وأمي وبنفسي من كل سوء. هذا رزق أرسلني الله به، اشتريته من القافلة عندما علمت بحصاركم. فرفعت أم المؤمنين وبناتها أيديهن شكرا لله على بره ودعون له، ثم أمرت بإدخال الحمول ساحة الحصن. فانصرف أهل البيت إلى معاونة الجمالة على ذلك، ولم تمض ساعة حتى كان رزق الله قد استوى في الساحة، وعاد الجمالة بالجمال إلى ما وراء مكة كما اتفق التجار مع ورقة مشكورين مكرمين.
وإذ علمت سيدة قريش بما كان من قدوم وفد الكفار على القافلة وإنذارهم التجار بالويل إذا هم باعوا بني عبد المطلب شيئا - أدركت ما يحيط بورقة من الشر، فأمرته أن يذهب إلى أمه لكيلا يرى، وأوصت كل من أرى وشهد أن يكتم أمر ورقة، وإذا سألهم سائل أن يقولوا له: جاءت جمالة فأنزلوا الحمول وانصرفوا ولا يعرفون من هم، وهذا صدق كله، ولكنه لا يبين عن المرسل. على أنه هو الله وحده الذي دبر هذا، ورد كيد المشركين والكفرة القساة القلب إلى نحورهم وأكبادهم.
ولم تر أم المؤمنين أن تلجأ إلى فراشها في تلك الليلة، حتى توزع فضل الله على عشيرة الرسول، مؤمنين وغير مؤمنين؛ ليطعموا عيالهم الذين يتضورون جوعا، ولكنها ما كانت تصدر عن أمر إلا بمشورة رسول الله، وكان
صلى الله عليه وسلم
عند عمه أبي طالب، فأرادت أن ترسل إليه؛ ليجيئها، ولكنه كان قد جاء فعلا، وتلقاه مولاه زيد بالخبر السار؛ فحمد الله - فيما أخال - ودعا لورقة وأثنى عليه، كما أخال أنه
Bog aan la aqoon