أراقم الثنية
في الساعة التي كان يجري فيها هذا الاحتفال الجبلي العظيم، كان الحارث يزور أندية قريش في الحجر عند الكعبة ليودعهم، ولكنه لم يعدهم يستحقون هذا الإكرام، فاكتفى من الأمر بالمرور محييا وكأنه لم يحتزم شيئا، ولا كان قد غاب عنهم. ذلك بأنه لم يسمع في مجلس من مجالسهم إلا لغوا، وإلا سبا وذما لرسول الله المبرأ من كل ذام. علم منهم أنهم يبعثون كل يوم بسفهائهم وصبيتهم وغلمانهم إلى رسول الله وأتباعه يسبونه في وجهه، ويلقون عليه وعلى المسلمين الأحجار والروث، ويوعزون إلى جواريهم أن يتغنين في الطرقات وفي المواخير التي كانوا يغشونها أراجيز مقذعة سافلة في حق أطهر خلق الله وأكرم عبيده عليه
1
بل رأى من أقرب الناس إلى رسول الله نفسه من يسبقون سائر قريش في أذاه. ففيما كان الحارث يزور أحد المجالس جاءه أبو لهب مستطبا من حشرجة في صدره أثر ما كان يلقي من القول المقذع في ذم ابن أخيه. فقال له الحارث: لو تركت هذا لرد إليك صوتك! قال: لا أتركه ولو أصبحت لا أطيق الكلام بتاتا. إن من يسب آلهتي ويسفه حلمي وحلم قريش - أسبه هو وإلهه حقا. قال: إنما إلهك إلهه، وإنما أنت تتوسل إليه بحجر مما تستبرئ بمثله. قال: قبحت. كيف تقول هذا؟ قال: اذهب لا طب لك عندي إلا ما ذكرت، وسمع الحارث من أحدهم أن عتيبة بن أبي لهب، قبل رحيله إلى الشام في تجارة لأبيه، وكان قد صاهر رسول الله في ابنته رقية - رضوان الله عليها - أتى إلى حميه في بعش مجالس، وقبض على لحيته، ورد عليه ابنته مطلقا، وبصق في وجهه
صلى الله عليه وسلم ، فدعا عليه النبي بما فعل. فقال: «اللهم سلط عليه كلبا من كلابك » فأكله الأسد بعد حين في الشام.
1
وسمع أن ولده النضر، وهو ابن خالته
صلى الله عليه وسلم
يرتاد أندية قريش؛ ليكذبه، ويسفه رأيه، ويغري به، وهو يقول: تعالوا إلي أنا أحدثكم عن أخبار الفرس والروم، وما يفعلون اليوم، فهذا أمس بكم من حديث محمد عن ذي النون وذي القرنين ممن لا تعرفون. إني أنا العالم البصير، وما هو إلا الأمي الجاهل؛ فحزن الحارث لهذا حزنا شديدا، وسار إلى منزله مغضبا؛ ليؤنب ولده على غروره وقبح حديثه، وسفاهته، وكان الليل قد اشتدت حلكته فما كان يتبين الإنسان فيه إلا الأشباح، وإلا ما تحمل الريح إلى الآذان من لغط اللاغطين. فسمع على مقربة من بيته رنين أعواد وطنين مزاهر ونقر دفوف ثم غناء يعقبه ضحك وسباب، ورأى نورا ينبعث من كوة بعيدة في بناء الدار، فدخل وقصد إلى الغرفة المضاءة فإذا هو يجد فيها جماعة من أصحاب الحول والسيادة في مكة ممن عرف الحارث عداوتهم للأمين، جالسين مع ولده النضر، وولده ممسك بينهم عودا يغني عليه، وبين أيدي الجمع أكواب مترعة من الخمر يتناولونها، منهم الوليد بن المغيرة أبو خالد وصاحب الدار التي يسكنها الحارث في هدى، ومنهم الأسود بن عبد المطلب بن هاشم والأسود بن عبد يغوث من خؤولة رسول الله، والعاص بن وائل أبو عمرو، وعقبة بن أبي معيط ... وغيرهم من مداره قريش. زعم الحارث أنهم في زيارة له أو لولده، فلما حياهم وجلس بينهم انقطعوا عن الدق وسكت النضر عن الغناء؛ إذ كان قد نظم أبياتا مقذعة في حق أطهر خلق الله نفسا وأعفهم لسانا. فقال لهم الحارث: لم سكتم يا صحاب؟ إني عواد مثلكم وأحب أن أستمع، قالوا: زعمنا أنك نسيت العود وألحانه. قال: إن العود في الذهن لا في اليد. قالوا: فأسمعنا إذن. قال: ما جئت لهذا، أما أنتم فكنتم في بحاره. فتناول النضر عوده وقال: ولكنها بحار مرة لا تستسيغها يا أبتي. قال: هات. قال: فاسمع. ثم انصرف المشرك يغني أبيات الذم في رسول الله. فأسكته الحارث على الفور، ووضع يدا على الأوتار وأخرى على فم ابنه، والكل يضحكون، وقال الحارث: على رسلكم يا سادة، أمحمد بن عبد الله عظيم الخطر في مكة حتى لتشغلون أنفسكم بأمره! قال ابن أبي معيط: إنه أفسد علينا هو وصاحبه أولادنا ونساءنا ببدعته. قال متجاهلا: لم أعرف من أمر ابن عبد الله شيئا فلقد كنت في أسفاري كما تعلمون، فهل لكم أن تذكروا لي شيئا مما يقول؟ قال الوليد بن المغيرة وكان أفصحهم مقولا وأقذعهم سبا: هذا المجنون يريدنا على أن نترك آلهتنا ونعبد ما لا نرى ولا نسمع، وجاءنا بأقوال من سجع الكهان يسميها قرآنا حفظه لغلمان قريش وسفهائها، فساروا به يسبون الناس، بل يسبون أهله، وإليك بعضه: حفظناه من كثرة ما سمعناه
تبت يدا أبي لهب وتب * ما أغنى عنه ماله وما كسب * سيصلى نارا ذات لهب * وامرأته حمالة الحطب * في جيدها حبل من مسد . أيرضيك هذا يا حارث؟ قال: عجبي لكم! وهل يرضيكم أن تذهب إليه امرأة عمه أبي لهب هذا بحجر تريد أن تشج به رأسه؛ لأنه يقول: الله ربي؟ ويسير زوجها في الطرقات يسب عرض ابن أخيه من أجل ما يقول؟ ويغري به الأطفال والإماء والغلمان يرمون عليه الحصى والرماد والفرث؟ ويتبع خطواته في كل مكان حتى إذا وجده يدعو بكلمة ربه سفهه وكذبه، وصرف الناس عنه؟ وأن يذهب أولاده إليه فيطلقوا له بناته إزراء به وإخناء عليه؟ ويشتموه ويسبوه بأعلى الأصوات؟ ويؤذوه؟ دعونا من هذا السباب، واذكروا لنا شيئا من دينه. قال العاص بن وائل وكان حكما في مكة: إنه يريد أن يكون خليفة زيد بن عمرة بن نفيل فيما يدعي من العلم بدين إبراهيم، فهو يقول: إن الله أمره أن يتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين. قال: وهذا ما تعيبونه عليه؟ قال: أجل، هذه صبأة يا حارث، كيف يعيب ديننا حسنا كان أو قبيحا. نحن على هذا منذ ألوف من السنين، ولنا بدين اللات والعزى ومناة أكرم منزلة في العرب، وما مكة وقريش إلا أثر من فضل هذه الآلهة علينا. ألا ترى الأعراب ينسلون إلينا من كل حدب ابتغاء الحج فلا نأذن لهم أن يطوفوا بالبيت إلا في ملابس من تجارتنا، وألا يأكلوا إلا من طعام مما نبيعه، ولا يشربوا إلا مما نجيء لهم به من الماء، ثم هم يشترون مما نتاجر فيه؟ قال الحارث: أنتم إذن تتجرون بالدين، وتحاربون محمدا وتسفهون رأيه؛ لأنه إذا ظهر عليكم دينه اختفى ربحكم وما تكسبون! تعيشون على جهالة الناس وتجهيلهم! دعونا من هذا وخبرونا ماذا جاء لكم به من الدين؟ قال عقبة بن أبي معيط، وكان قد ألقى على الرسول في أمسه فرث بعير أهل لنائلة: عجبي لهذا الأمي كيف يدعي النبوة، ولم يقدر أن يدعيها زيد بن نفيل نفسه. إنه يقول إن وحيا يجيئه من عند الله يحادثه ويكلمه، ويلقي عليه كلمات من عند ربه، وقال له ورقة بن نوفل الصابئ: «إن هذا هو الناموس الذي نزل على موسى وعيسى» وأخذته امرأته خديجة إلى عداس الراهب على أثر هذه الدعوى فقال لها: هذا هو النبي المذكور في التوراة والإنجيل. هذا نبي آخر الزمان. ففتن الرجل بما سمع وجن، وأخذ يهذي بكلمات يسميها قرآنا. قال الحارث: ألا تذكرون لي شيئا مما يهذي به في قرآنه! قال عقبة: لا أعرف ... الهذيان هذيان. من يستطيع أن يحفظ هذيانا! أتستطيع أنت؟ قال عتبة بن ربيعة: أنا أحفظ بعضه. سمعته يصلي ذات يوم وهو يقول:
Bog aan la aqoon