على أنه كان في مكة يوم أصيب باقوم في قدمه. ذلك لأنه لم يشأ أن يبقى في الإسكندرية بعد ما تراكمت عليه أسباب الذعر مما يحيق بها؛ وألفى نفسه وامرأته وابنته في أنياب العطب غير مرة.
كان فيها يوم ورد إليها نبأ ثورة رهيبة قام بها في بيزنطة جندي سوقي مشوه الخلقة يدعى فوقاس أفسد الجيش بأكاذيبه ووعوده، وتمكن بذلك من قتل الإمبراطور الطيب الخير موريقوس، وقتل كل أولاده وبناته وأمراء بيته واعتلاء العرش مكانه،
3
وكذلك في سنة 909 يوم جاء النبأ بأن هرقل ابن أمير أفريقية (تونس) - وكان قد غضب لهذه الجريمة - دعي إلى القسطنطينية لطرد الإمبراطور المغتصب فوقاس، فخرج بجيشين؛ أحدهما: سار به في البحر إلى بيزنطة؛ ليطرد منها هذا الإمبراطور المغتصب المكروه، والثاني: سار به بالبر بقيادة صديقه نيقتاس مارا بطرابلس وبرقة قاصدا الإسكندرية، وكانت عاصمة الإمبراطورية الثانية؛ ليستولي عليها، ويطرد الوالي الفوقاسي منها، وكان الحارث يود أن يغادرها لولا أن امرأته كانت مريضة. فلما أبلت كان نيقتاس قد حاصرها فأقفلت أبوابها، وأصبحت جميع الطرق غير آمنة، بل انتشرت عصابات اللصوص وقطاع الطرق في جميع نواحي القطر، حتى أصبح البقاء في الحصاد آمن وأكرم.
4
فلما انتهى الحصار بانتصار نيقتاس ولاح الأمن كأنما استتب في الديار عزم على الرحيل بزوجته وابنته إلى مكة من طريق الصحراء، ولكنه علم أن الإمبراطور فوقاس أرسل أمير الشرق بونوسوس أغلظ قواده كبدا وأسلفهم نفسا؛ ليسترد الإسكندرية من نيقتاس، وليعفي أثر حي اليعاقبة خاصة من الإسكندرية، وهو حي رقوده، وذلك انتقاما منهم لقتلهم تيودور بطريق الروم، ولفرحهم بزوال دولته من مصر، وأن بونوسوس هذا قد نشر جيوشه في العامرة والغامرة، وأباح لمناسر اللصوص أن يسرقوا ويقتلوا ويفضحوا الأعراض. فآثر الحارث ويل الحصار وانتظار العاقبة على أن يغامر بنفسه وزوجته وابنته في طريق الصحراء وغير الصحراء، والحال على ما علم، وبقي في الإسكندرية على مضض شديد إلى أن اضطر بونوسوس إلى ترك الحصاد والعودة على عجل إلى أنطاكية مقر إمارته في الشام قبل أن يقطع عليه الطريق. فقد بلغه أن كسرى أبرويز بلغ بجيوشه أرمينية وحدود الشام؛ ليأخذ بثأر الإمبراطور موريقوس الذي قتله فوقاس، وكان لموريقوس على أبرويز فضلان؛ الأول: أنه رده إلى عرش فارس لما اغتصبه منه وزيره بهرام
5
والثاني: أنه أكرمه فزوجه من ابنته مارية ابتغاء حقن دماء شعبين عظيمين لم يهدأ لهما سيف في قراب منذ كانا متجاورين.
عندئذ أراد الحارث أن يرحل عن الإسكندرية ذات الثورات والبلايا، ويعود إلى البلاد التي جعل الله بينها وبين مطامع الشعوب فلاة لا مطمع فيها لطامع، فعاشت لقاحا لا يملكها مالك. ولكنه لم يستطع أن يحمل زوجته على قبول السفر، حتى رأى قوزمان نفسه والد امرأته أن من الخير لهم أن يبعدوا عن مصر كلها، ولكنه نصح لهم أن يأخذوا طريق النيل إلى قفط، ومنها بالجمال إلى عيذاب على شاطئ البحر؛ لينتقلوا في سفينة إلى جدة فمكة، وكتب بذلك إلى أصدقائه في مصر العليا فسهلوا نقلة الحارث وكذلك كان، واستطاع أن يبلغ مكة دار الأمن والسلام، ويسري عن نفسه سحابة الذعر الذي تملكه أربعة عشر عاما في الإسكندرية، ولما جاء ورقة يخبر سيده ابن نوفل بما نزل بعمه باقوم نهض ابن نوفل من فوره إلى دار الحارث، ورجا منه أن يسير معه إلى باقوم، وأخبره خبره. فنهض الحارث، واحتمل ورقة حقيبة أدواته ولوازمه، وسارا إلى حيث رقد باقوم.
فحص الحارث عما أصاب باقوم فوجد أن مشط القدم قد تهشمت عظامه، ولا يجدي فيها تجبير ولا مروخ، وأنه إن تركها على أمل أن تلتئم ويزول ما تحدثه من الألم فلن ينتفع بها. على أنه كان يرجح أن يصيبها العفن ويمتد وراءها ويموت الرجل، ولذلك أشار ببتر هذا الجزء المهشم على الفور قبل أن يسري القيح منه إلى سائر البدن.
Bog aan la aqoon