34

Albaabka Dayaxa

باب القمر

Noocyada

ثم صدوا كل هاد عن هداه

غيب الضوء فما أجدرهم

بنهار مظلم مثل دجاه

ولكن القمر لم يعره أذنا، بل زاد إشراقا ظهرت به ابتسامة إنسانه الساخر وضوحا، ولاسيما حين بلغ أذنيه عواء قريب شاهد على إثره ذئبين يدبان على جانب الطريق عن يمينه حتى إذا حاذاهما جريا نحوه في همهمة الجائع ودمدمة الظافر، والناقة ترعاهما ولا تعيرهما التفاتا، بل ترقل في طريقها كالنسر الجامح، ولكن ورقة كان كما قال نضو قفار وحليف أسفار، وكم مر به مثل هذا فجازه مع السهم المارق، ولذلك نزع قوسه عن مشجبها في قتب الراحلة، واستخرج سهما من كنانته، والذئبان يراوغانه ويعتورانه ميامنة ومياسرة، ويهمان به وبالناقة حتى إذا أوشك أحدهما أن يعلق ببطنها ليبقره كان السهم قد اخترق يافوخه فهوى على الأرض صريعا، ولكن كان الذئب الثاني قد قفز عن الأرض قفزة حاذى فيها رأس الناقة، ووقع على عنقها؛ ليعقرها عقر النمر حين شوح بذيله ليلطم ورقة على وجهه على عادة الذئاب في القتال، ولكنه لم يلطم إلا كتفه، وتدلى على لبان الناقة، وسرعان ما استل ورقة خنجره من قرابه، وحاول أن ينال من الذئب مقتلا، ولكن الذئب كان أبعد من منال يده؛ إذ كان ورقة على سنام الناقة والذئب على قفاها، فشد ورقة عنانها؛ لترفع رأسها، ويدنو قذالها فيدنوا الذئب منه، ولكن الذئب كان أسرع منه وأبصر، فما كاد ورقة يغمد الخنجر في خاصرته حتى كان الذئب قد لطمه بذيله مرة أخرى على صفحة عنقه فارتدت الطعنة عن المقتل، وأصابت فخذ الذئب، فوقع على إثرها على الأرض يحاول الجري على ثلاث.

عند ذلك وقف ورقة ناقته، وأناخها وترجل، وأخذ يتفحصها، ولكنه لم يجد بها إلا جرحا على صفحة العنق اليسرى من ناب الذئب، وجر وحافى لبانها من مخالبه لم تجز إلى اللحم. ذلك بأن قذالها كان مغطى بالأديم، فلم يبلغ الناب منه مأربا كبيرا، وكان الذئب في ذعر ممن وراءه فلم يتمكن من فريسته.

حمد الله ورقة على هذه العاقبة، وتناول سقاءه، وأخذ يغسل جروح الزميلة، وفيما هو كذلك رأى جثة الذئب المصروع فأخذ يتأمل حتى إذا ملأ عينه منه وقلبه رأى نفسه يحدثه حديث الظافر المطمئن، ويقول: إيه يا ذئب العرب الأبي الكريم الذي لا يستخذي، ولا يماري، ولا يبيع حياة الحرية مع الجوع بكل فضلات موائد الأمراء والأقيال كما فعل بعض قبيلك في الراحلين إذا استكلب وارتضى عيشة المذلة والهوان من أجل لقمة يلقيها إليه بنو الإنسان. لا لعمرك لقد أنصفت، فإن كنت قد خذلت الليلة فطالما ظفرت، وإني لأراك سيدا عملسا، عليك كسوة كريمة لم ينسجها لك غير ناجذيك وأظفارك، وتلك لعمري من أردية الأسعدين، ولكنك يا ذئب حاولت أن تأكل أكرم خلقين أنا وهذه النجيبة: حبيبين لم يجتمعا إلا منذ قليل، وقد تعاهدنا على الوفاء، فاعذر إذا أنا حميت إلفي، وجعلت حتفك فداء حتفي. ثم تناول ورقة قبضة من تراب الصحراء فعفر به الجروح، وإذ أنت الشملالة وعجت من ألم الضماد ربت على عنقها، وهون الأمر عليها، ثم اعتلاها فنهضت به، وأخذت في المسير كما كانت وكأن لم يصبها شيء.

الفصل الخامس

القرضاب

ذر قرن الغزالة على ورقة بعد مسيرة ست ساعات لم يقطعها عليه إلا الذئب في قليل من الوقت. وكان صباحا بهيجا يملأ النفس روعة واغتباطا بالحياة، وكانت الناقة تسير على سجية واحدة من الهمة والنشاط، لا يعتورها فتور ولا تراخ في المسير، وكأنما كانت معودة هذه الطرق، فهي عارفة بالدروب بصيرة بالمجازات، ولذلك لم يكن ورقة في كبير حاجة إلى تسييرها فلقد حدث له أنها صرفته غير مرة عما يعلم أنه طريق نجران، ويحاول ردها فأبت أولا، ثم أطاعت، فوجد أنه كان في ضلال، فعاد بها إلى حيث اختلفا، ومن ثم ترك لها العنان. فكانت تسير فيما كانت تغالبه عليه، وكثيرا ما كان يدعها تسير على هواها فيراها تأخذ سمتا يجهله. تدخل دربا لا عهد له به، وتخرج منه إلى واد ملتو، أو ترقى مصعدا في جبل، ثم تنخرط منه إلى سفح فواد وهكذا؛ فإذا هو قد قصر الطريق بقدر ما يقصر الوتر من القوس، والواقع أن هذه الناقة لم تكن مما يسير في القوافل، فإن القوافل تلتمس أهون السبل وإن كان أطولها التماسا للسهولة والراحة، بل كانت راحلة من رواحل الرسل والبرد بين اليمن والعراق ومدائن كسرى، وهؤلاء لا يلتزمون طريق القافلة وإن هان، إذا عرفوا ما هو أقصر منه ولو كان شاقا، ومن ثم كانت الشملالة أدرى من راكبها بحاجته وأضرى بالطريق، ولذلك أذعن في آخر الأمر لها وسلمها قياده، وشغل نفسه بتأمل الأصقاع التي كانت ترودها.

ولقد كان من بين تلك المرائي الجديدة خميلة من شجرات مورقة، ونخيل متعثكل، قائمة في منبسط عند مقطع أكمة من جبل قائم في مواجهة شمس الصباح، كانت الناقة تسايره قرابة الساعة، ولقد كانت الأكمة قبل أن يدنو منها غبراء، وفي بعض الأحيان سوداء داكنة كغيرها من الأحقاف التي مر بها، فإذا هي الآن تتألق بما كان ينحدر عليها من ماء لم يره من قبل. فتعجب كيف لم يره والناقة قادمة عليه، ولكنه عزا ذلك إلى التواء في صفحة الأكمة رد أشعة الشمس إلى غير جهته، وإن كان الواقع غير ذلك، وبهذا التعليل سار حتى دخل الخميلة واحتواه الشجر شاكرا للناقة فعلها. هناك رأى الماء يسقط متراخيا عن يساره على صفحة الجبل، وإذا هذه الصفحة قائمة أو تكاد. كاللوح المنصوب أو الجدار القائم والماء ينصب من بين صخرتين رابضتين على ناصية الجبل كما يربض الوحش أو يرخم العقاب، ثم يتدلى مستعرضا على جبهة الجبل كأنه غلالة منشورة، ثم ينزل عنه متجمعا في مسارب منحدرة إلى رقيعة؛ بل نقرة يخرج منها فلج يسير فيه ما يفيض من الماء.

Bog aan la aqoon