154

Albaabka Dayaxa

باب القمر

Noocyada

وفيما هم في ذلك جيء بالشريف العربي - الحارث بن كلدة - ينتظر مقدم الأمير، ولم يكن من صعد به السلم يعلم أن في الدار أحدا؛ لأنه جاء من الميناء حين كان لوكاس مشغولا بتهنئة سيدته هيلانة.

وكان الحارث يزعم أنه سيدخل مكانا معدا لضيافة الرجال، ولذلك دهش إذ رأى في صدر القاعة أشباح سيدات تخالط أشباح رجال فتراجع يسائل صاحبه عمن يرى، وخطر على باله أن مصاحبه أخطأ، ولكن فؤاده كان قد ترجم ما حملت إليه عيناه من صور زوجته وابنته وقوزمان فتردد، وكانت هرميون قد تنبهت لشبح زوجها فنهضت صائحة تقول: الحارث! الحارث! في الوقت الذي كانت لمياء قد رأت فجرت نحوه: أبي! أبي! وسمع الحارث صوتهما فعاد إلى القاعة عجلا؛ ليرى القائل، وإذا هو يجد لمياء تتعلق بأكتافه، فتناولها وتناولته بالعناق والتقبيل والبكاء، ثم أتت زوجته فعانقته طويلا، وبكت على كتفه بكاء مرا، وبكى الحارث معها حتى لم يعودا يستطيعان الفراق لولا أن قوزمان تقدم إليه هو وهيلانة فسلما عليه متعجبين لمقدمه، وعادوا به جميعا إلى حيث كانوا، وهم يسائلونه كيف جاء! ومن أرسله إليهم! قال: ما عجبكم بأشد من عجبي. تمهلوا قليلا. ثم أخرج من جيبه البطاقة التي كتبها ورقة وأمضاها، وقال: من ورقة الذي أمضى هذا الإذن بدخولي الميناء؟ قالت هرميون: ابن العفيفة يا حارث، وانبرت هيلانة تتكلم عنه بما وسع قلبها من الحب لورقة، وقوزمان بما وسع فؤاده من الإكبار والإجلال. فقال قوزمان: هيلانة ردت إليه بعض فضله عليها فعرفته على حقيقته إلى الأمير نيقتاس ساعة كان الأمير في أشد الحاجة إلى القوي الأمين، فأدخله في خدمته، ومنحه من أجلها رتبة على الفور عالية، وهو الآن حارسه الخاص، وصاحب الكلمة العليا في القصر وفي الإسكندرية برمتها؛ لوفائه للأمير ونزاهته في كل عمل، ورشده النادر في كل حادث، وكبره عن دنايا الدنيا وغوايات الشباب. قالت: والله ما استطعت أن أرد له جميلا، وإنما أحسنت إلى نيقتاس. فضل هذا الفتى علي أعلى من أن يبلغه شكر أو تصل إليه يد بيد. إنه قديس. قال الحارث: هذا ما أعرفه فيه. قال قوزمان: وقد منحه الإمبراطور هرقل فيما علمت منذ ساعة لقب حارس خاص عندما أرسله نيقتاس في مهمة عليا لمجلس الجيش. على أنه لم يعد من القسطنطينية إلا ظهر اليوم ولم نره بعد. قال الحارث: لقد رأيت سفينة بيزنطية عائدة من القسطنطينية، وأهل الميناء يحيون من فيها . كان فيها اثنان ظاهران، ولكني ما قدرت أنه أحدهما.

ولكن كيف جاء هنا؟ إني علمت أنه في يثرب عند خئولة رسول الله؛ فانبرت هيلانة وقوزمان يخبرانه بما كان من أمره في يثرب ومعان وفي الصحراء، والحارث يقول معجبا طربا: هذا ولدي. هذا تلميذي. هذا مثال الفتى المسلم الذي سيكونه كل عربي عند ما تتم دعوة سيد العرب محمد بن عبد الله. قالت لمياء، وكانت وكل هذه الأثناء تحت جناح والدها: وكل فتاة عربية يا أبي. قال: أحسنت يا بنية، ولكن لماذا لا أراه هنا. قال قوزمان: إنه مع الأمير يعد عدة الرحيل عن الإسكندرية، وقد أمره ألا يرى لمياء ولا تراه حتى يفرغ من إعداد حموله، ونحن راحلون معه، وأدركت لمياء أنه سيذكر حكاية زواجه فتركت المجلس تفاديا من موقفها الحرج، وقال الحارث دهشا: لماذا يحرم عليه لقاء لمياء خاصة وعليها لقاءه خاصة ولا يحرم ذلك على من عداهما؟ قال قوزمان مغالطا: لأننا مسافرون جميعا. قال عجبى لك يا سيدي، من ذا الذي تعنيه بالجمع في قولك؟ ألا ترى أنك تتكلم بالأحاجي. قال: لا أحاجي في ذلك، ولكن الأمير رأى الإسكندرية توشك أن تقع في أيدي الفرس؛ إذ لم يبق من حاميتها من يكفون لمداومة القتال، وقد أرسل الإمبراطور يقول: إنه لا يستطيع أن يرد إليها من كان قد أخذه من حاميتها، ولا أن يمونها بشيء من الغلال، وأباح لنيقتاس ويوحنا الرحوم أن يجيئا إليه، وقد رأى نيقتاس صواب الرحيل، وإذ كنا أقرب الناس إليه وإلى حارسه الخاص ولده ورقة الذي لا بد أن يصاحبه، وهو يعلم ما سيلقى كل رومي من سيوف الفرس عند دخولهم - فقد أرسل إلي صهري وعديلك الجديد أورست؛ ليحمل حمولنا، ويأتي بنا إليه هنا؛ لنسافر الليلة في غفلة من المدينة. قال: ولكني سمعتك تذكر وتستثني هرميون وحدها. قال قوزمان مستمرا في تجهيله وإبهامه: ذلك لأن أمرها أصبح موكولا إلى زوجها بعد ما جاء. قال الحارث وابنتي أليس لي عليها ما لي على امرأتي؟ وكانت لمياء في هذه الأثناء واقفة تتسمع بجوار عضادة الباب من الغرفة التي انسحبت إليها وهي هلعة من هذا الحديث خاشية ألا ينتهي إلى خير، وزاد هلعها أن رأت رؤبة يدخل القاعة مستبشرا، ويتقدم نحوها ليخبرها بمقدم ورقة، فاضطرب قلبها لذلك، ولما لاح ورقة في المدخل لم تقو على الوقوف فارتمت على مقعد كان وراءها. دخل ورقة في لباسه العسكري الجميل تراه ولا يراها. فاتجهت إليه العيون معجبة ومزدهية، والقلوب تحييه بمحبتها وإجلالها، والأفواه تعجل له آيات الرضا والحمد لله عليه ببسمات، إلا الحارث فإنه غضب أن يكون الحال في هذا البيت بحيث يدخل ضابط من ضباط القصر على النساء بلا استئذان، وتنهض إحداهن للقائه بتحية شوق، وهو لا يدري من هو، وكان على قوزمان أن يرد على كلام الحارث، فلما رأى ورقة داخلا قال للحارث: ليس في الأمر أحاجي، ولكنك لا تريد أن تفهم القول الذي ليس فيه خفاء. سل إذن هذا الضابط فلعله يستطيع أن يعطي لك جوابا. فاضطر الحارث أن ينظر إلى القادم فإذا هو يرى فتى أروع يتقدم نحوه بخطى كريمة، وإلى جانبه سيفه العربي الملتوي الذي كان الحارث يعلم أن زيد بن حارثة أهداه إياه وقال: هذا من سيوف رسول الله. فلما تبينه نهض هو أيضا للقائه وهو يصيح: ولدي ورقة! وسمعت لمياء هذا النداء فخارت قواها، وبكت حيث هي، ولكنها نهضت بقوة الحب لترى، وإذا الحارث يضمه بين ذراعيه ويقبله ثم يقبله وهو يقول له: أنت ورقة! ما أسعدني برؤيتك، وأخذ كل منهما يذرف الدمع من سروره بهذا الاجتماع، وانحنى ورقة يقبل يده فلم يمنعه الحارث أن يقبلها؛ لأنه كان يشعر أنه ولده الذي يخصه بكل حب وكل رعاية، وجلس حيث كان آملا أنه يجلس بجانبه، ولكن ورقة انتحى في مجلس أمامهم، وكان في نيته أن يفتح الحديث في أمر لمياء على الفور. فما إنه سأله الحارث عن حاله حتى انبرى له في الرد عليه يقول: يا سيدي وأستاذي وأبي. أنا على ما تعهد في ، وكما تركتني، ولدك وتلميذك وخادمك، فباركني. قال الحارث: ليبارك عليك الله ورسوله، قال: فاعف عني. قال: علام أعفو. ما أسأت إلي في حياتك قط. قال: استمع لي يا أبي، إني ما جهلت منزلتي منك لا بيني وبينك خاصة، فهي منزلة البنوة، ولا بيني وبين الناس، فما أنا إلا ابن نجار من أهل هذه البلاد، وأنت من أنت في الدنيا وبلاد العرب.

ولكن سيدتي هيلانة اطلعت على نجوى نفسي وأنا وحيد في الصحراء قبل أن أعرف من هي، وعلمت بفرط حبي للمياء، وفرط حبها لي قبل أن تعلم أنها هنا. فلما وجدتها هنا رأت أن الخير في زواجنا في هذه الغربة الدائمة فأبلغت الأمير قصتنا على غير رجاء مني، والتمست منه أن يسقط كل حقك علي وعلى ابنتك وامرأتك ويعمل على الجمع بيننا. فدعانا الأمير إليه، وطلب إلي أن أبدي سبب رفضي أن يعقد لنا، فأبديت له أنك لا تملك بين قومك أن يقال زوج الحارث بن كلدة الثقفي ابنته من ابن سبية ونجار، وأنك إن رضيت بهذا الزواج كنت مضحيا بكرامتك في قومك من أجلي، وأنا لا أرضى أن تضحي لي بشيء فأنعم أنا وتشقى أنت، ولكن مولاي الأمير قال: إني قديس أناني؛ لأني رعيت كرامتي لديك وحقك علي في غيبتك ورضيت أن أضحي بلمياء وحب لمياء، وألزمني أن أقبل العقد، بل عقده يقينا برضاك، وكان ذلك في حضرة سادتي هؤلاء، وأرسل إليك في مكة بخطه كتابا مع رسول خاص يسترضيك ويطلب بركتك، ولكنك كنت هنا قبل سفر الرسول ولا نعلم. على أن الله أنقذني من حيرتي فقد جاء سفري إلى القسطنطينية على أثر العقد، وجاءت عودتي للقاء لمياء بعد لقائك، وها أنا ذا وربي طوع أمرك، فما إن تقلها كلمة حتى أقولها كلمة، وكأن لم يكن شيء. إن مولاي يرحل بكم الليلة تفاديا من وقوعكم في الأسر، ولن يطول شقائي من بعدكم؛ سأبقى في الإسكندرية أدافع عن بلد أبي وأهلي. بلد آواني ، ولقيت فيه نفحة من نفحات السعادة بقرب لمياء مني. حتى إذا حم القضاء قتلت نفسي بسيف رسول الله هذا إذا أيقنت بالهلاك داعيا لكم بطول الحياة وللمياء بالسعادة في جوار سواي.

فلما سمع الجمع هذا الكلام بكوا، وسمعت لمياء تنشج في بكائها في الغرفة المجاورة، وإذا الحارث ينهض من مجلسه ويرفع يديه في غيبوبة من تأثره، ويتناول ورقة متأثرا من كلامه، ويصيح: إلي يا ولدي، إلي يا نعمة الله. بعدا لبني عبد الدار وثقيف، بعدا للأكاذيب والأراجيف! لتراب نعليك أشرف من هاماتهم جميعا. تعالي يا لمياء، خذي زوجك وعيشي معه في بركة مني وسلام من الله، واذكراني دائما بالدعوات، فإن نفسيكما أطهر النفوس. فأتت بها خالتها بين يديه فتناولها وقبلها وقبل ورقة بين بكاء الحاضرين من فرط السرور، وجمعهما بين يديه يقول: خذ زوجتك، وإذا بالأمير قادم فلما رأى هذا المشهد أدرك ما جرى فقال على عادته من السماحة: حسبت أن الأمر يحتاج إلى مقالي ودفاعي عما فعلت، قال الحارث وهو يتقدم لتحيته: لقد كان الحق الذي رأيته وفعلته أبلغ مقال يا مولاي. تقبل شكري ودعائي لك بطول البقاء. ثم تقدم إلى الأمير وانحنى وقبل يده، فبارك له الأمير بزواج ابنته، وقال: أنت إذن معنا. قال: نعم، قال: فانصرفوا من فوركم إلى السفائن. ستجدون هناك يوحنا الرحوم وأورست. فقال الحارث: إن معي يا مولاي رجلين: أحدهما خادمي زياد، والآخر صديق لي من اليهود ولكنه بغير عقيدة. قال مرحى! من هذا؟ فالتفت الحارث إلى ورقة يقول: من تظن يا ورقة؟ قال: نعيم الصيدلاني وربي. لقد كان مشوقا إلى الإسكندرية. قال الحارث: إنه يا مولاي صيدلاني من يهود صنعاء مغرم بالأسفار، وله في الحياة فلسفة خاصة أسلم من كل فلسفة، ولشد ما كانت فرحتي وعجبي إذ وجدته في قافلة رومية كانت خارجة من الفيوم تلتمس الشاطئ مجانبة معسكر الفرس. قال نيقتاس: ليكن هذا الفيلسوف النادر المثال معي أنا؛ لأني أحب أهل الآراء الخاصة متى كانوا راشدين، وليجيء خادمك معك. إنا سننزل رودس . فمن شاء العودة إلى بلاده فهي قريبة من الشاطئ. مرحبا بالأضياف. قال الحارث: شكرا للأمير وحمدا لله عليه. فالتفت الأمير إلى لمياء وتناول يدها وقال: هلم يا لمياء معي أنا. ستكونين في صوني حتى نبلغ السفائن، حين نكون جميعا في صون زوجك ورقة. قال ورقة: كلنا فداء للأمير، واستمر الأمير يحادث لمياء وهي تسير بجانبه يقول لها: وسيكون زفافك إليه في السفينة، وكذلك خالتك هيلانة إلى أورست. ثم اتجه إليها يقول: إنه الآن هناك ينتظرك يا هيلانة وبه من نار الشوق إليك ما لا يبرد أواره ماء البحر كله، وضحك وضحك الجمع، وساروا وراء الأمير نحو القصر الكبير من الطريق الذي جاء منه يتقدمهم ورقة، ويتعقبهم رؤبة في ملبسه العربي الجميل، وسيفه الملتوي القصير.

فما فتح الباب الذي يؤدي إلى قصر الأمير حتى توارت على الآذان في سكون الليل وظلمته الحالكة أصوات عويل وصياح وجلبة بعيدة، وهتافات بالفارسية وأخرى بالعربية. فأدرك الجمع أن الفرس قد فتحوا أحد الأبواب ودخلوا. أما كيف دخلوا فهذا ما لم يكن أحد من أهل القصر يعرفه؛ لأنهم ما كانوا يظنون أن في إمكان أحد اقتحام الأسوار التي استعصت على كل قائد قبل السلار إلا أن يكون الأمر بخيانة من أهلها، ولذلك التفت المقوقس إلى الجمع وقال: خيانة وحق آلهة روما وأوليمبيا معا! لا يفتح في الإسكندرية باب من خارجها، ولو اجتمعت عليه جيوش الفرس والروم معا! أسرعوا إلى مراكب البحر، وانجوا بالنساء أولا.

والواقع كذلك، فقد تمكن بطرس البحريني في شرذمة من جنود الفرس الذين ألبسهم ثياب الصيادين وأركبهم سفن السمك وبكلمة «الأمانة» التي حفظهم إياها أن يدخلوا من باب البحر على فم خليج كليوباترا، ويبلغوا جسر شارع كانوب، ويصعدوا إلى البر، ويسيروا تحت ستار الليل في السحر يحملون تحت أثوابهم سيوفا أعدت لهذه الليلة الرهيبة إلى باب القمر. هناك وجدوا الحراس نياما على عادتهم إلا من أعدوه للسهر عليهم، فقتلوه قبل أن يتيقظ سائر إخوانه، وينهضوا إلى سلاحهم. ثم أعملوا السيوف فيهم على الفور ، وفتحوا الباب للألوف التي كانت واقفة في الخارج تنتظر فتحه. فدخلت وتدفقت في المدينة وهي بعد نائمة، واعتلت الأسوار من الداخل والخارج، وجرت بينا وبين الجنود على الأسوار ملاحم كانت تتساقط فيها الجنود على الجدران على جانبي السور، وانصرف سائر الجند إلى المدينة يضربون هنا وهناك، ويقتلون كل من يلقونه رجالا ونساء وأطفالا، وينهبون ويسلبون، ويفضحون العرض ويبغون. حتى إذا انتبهت جيوش الحامية التي على الأسوار الشرقية خلتها، وجاءت لتلقى الفرس في الطرقات مستيئسة مستمية في الدفاع عن القصر والكنيسة.

كانت موقعة دامية فاصلة دالت على أثرها دولة الروم في مصر، كما دالت من الشام وأرمينية. دالت بسقوط الإسكندرية عاصمة مصر وعروس البحر الأبيض المتوسط كما سقط من قبلها سائر القطر من شماليه إلى جنوبيه، وقضي في ذمتها بقية الجيش الرومي وقواده إلا من استطاع النجاة بركوب البحر فيما كانوا أعدوه لأولادهم ومتاعهم من السفائن ضنا بهم وبه، أو يقعوا في أيدي جنود الفرس، أو في أيدي الغوغاء من اليعاقبة واليهود إذا دفعتهم أيدي القساوسة والأحبار للثورة والشغب.

جرى ذلك والأمير في بيت هيلانة لا يسمع؛ لأن القصر بعيد. هو في الشرق من الإسكندرية عند رأس لوكياس (رأس السلسلة) والملحمة عند باب القمر في الغرب منها. على أن الأبواب والنوافذ كانت مقفلة إذ الوقت شتاء

1

Bog aan la aqoon