1
أدرك ابن معيط ذلك فأرسل من فوره إلى حجام؛ ليحجم النضر، وجاء وحجمه، وحملوه إلى داره.
أما المصري فخرج يبحث عن بيت باقوم؛ ليسلم إليه رسالة ورقة، وكان منذ دخل مكة يرى على قرب منه غلاما فرها يسايره وهو يتطلع إليه، فلم يهمه أمره، وحسبه فضوليا يتعجب لملبسه، فابتسم وسأله عن بيت الحارث بن كلدة فتطوع الغلام ليدله عليه، وسار أمامه حتى إذا بلغه، ودخله الرسول - وقف الغلام بالقرب من الباب ينتظر خروجه. فلما خرج عاد يسايره. فقال الرسول: ألا تزال هنا؟ قال: أنا في انتظارك يا سيد، هل لك في مروءة؟ قال فيم؟ قال: تأخذ هذه الدراهم، وتشتري لي لحما وخبزا؛ إن أبي جائع، وأمي تكاد تموت من المسغبة. قال: وما يمنعك من أن تشتري أنت بمالك ما تشاء! قال: إني من موالي بيت رسول الله. قال: وهل لا يليق بموالي بيت الرسول أن يشتروا كما يشتري موالي غيرهم؟ أم إنهم يتنزلون للشراء بأيديهم! قال الغلام: ليتهم كموالي أخس الناس في مكة. إنه محظور عليهم أن يشتروا لسادتهم شيئا من أسواقها. إن النضر بن الحارث وصحبه الذين رأيتهم معه وسائر قريش قد أجمعوا على مقاطعتهم، وهم يعرفوننا نحن موالي بيت بني هاشم جميعا فلا يبيعوننا شيئا ولا يعاملوننا، ولذلك فإني أخرج كل يوم إلى باب العمرة
2
في انتظار الأجانب عن المدينة فأساعدهم فيما يلتمسون، وأرجو منهم في مقابل صنيعي أن يشتروا لي بنقودي طعاما لسادتي من سوق حزورة هذه فآخذه إليهم ، قال المصري: إذا لم يكن في ذلك بأس فهيا. هات دراهمك. ماذا تريد؟ قال الغلام: لحما وخبزا وسمنا، ولكني لا أستطيع أن أقف بجانبك؛ لئلا يعرفوا أنك تشتري لي. سأنتظرك عند باب الصفا الذي يرى في آخر هذا الدرب فإذا اشتريت وعدت فسر في الدرب حتى تلقاني أو ألقاك، وهناك سأسير أمامك فتتبعني حتى آخذ منك ما تشتري. قال المصري: هذه مهمة شاقة. فقال الفتى: إلا على مروءتك. إني أراك كريم النفس. قال: شكرا لك، ولكني أريدك لأمر آخر. قال: ما هو؟ قال: أتعرف بيت رجل رومي اسمه باقوم. قال الغلام: نعم، بل أنا من أهل بيته عينا فماذا تريد منه؟ قال: عندي له رسالة من ولده. قال الغلام: ورقة؟ قال نعم. قال: أهو حي يا سيدي؟ قال: حي يرزق، وهو اليوم أمير كبير، وهو الذي كتب هذه الرسالة. قال: هو سيدي ومولاي. أهو عائد إلى مكة؟ قال: يعود إلى مكة! لا لن يترك ما هو فيه من العز والنعيم في الإسكندرية ويأتي هنا إلى بلد ليس فيها طعام ولا شراب. قال الغلام: سأركض يا سيدي أخبر والده وأمه بقدومك ريثما تشتري الطعام، وأعود إليك، قال: افعل. سأنتظرك حتى تجيء. قال: بل سأنتظرك.
كان هذا الغلام رؤبة غلام القرضاب الذي أنقذه ورقة، أغرى أمه بالحج؛ ليأتي معها إلى مكة، ويرى سيده وصديقه الذي تعلق به قلبه، فجاءا ونزلا في بيت باقوم، ثم أغراها بالبقاء في مكة فقبلت، ورأت العفيفة في وجودهما في بيتها شيئا من السلوى، فعرضت عليها أن يبقيا معها فقبلا ذلك شاكرين، وعاشا معها منذ ذلك الحين يعملان في خدمتها، وفي خدمة مولاتها أم المؤمنين.
عاد رؤبة إلى دار باقوم؛ ليخبره خبر مجيء رسول من عند ورقة بكتاب، وأبلغه ما سمعه من الرسول من أمر ورقة، وأنه صار أميرا في قصر الملك في الإسكندرية فزغردت تماضر وأم رؤبة فرحا بما سمعتا ونهضتا لإعداد مكان للضيف البشير، وخرج رؤبة للقائه كما اتفق معه، وإذا به يسمع زئاطا كبيرا وجلبة واردة من أندية المشركين حول الكعبة، ورأى قوما يتراكضون نحو شعب أبي طالب وهم يهللون فرحين، فاستوقف اللطيم منهم قائلا: مهلا! مهلا! لن تكون الأسبق بعد ما فاتتك الكرائم فكن الأول في إخباري بما لديك. فضحك المحادث، وكان يعرف أنه من أهل الشعب مثله، وقال له: إن المشركين اختلفوا فيما بينهم على أمر المقاطعة، وذلك على أثر الآية العظيمة التي أظهرت صدق رسول الله. قال: ما هذا؟ قال: إن أبا طالب خرج من الشعب إلى الحرم فاجتمع الملأ من قريش، وقال لهم: إن ابن أخي أخبرني أن الله أرسل الأرضة على صحيفتكم التي كتبتموها فيما بينكم لمقاطعتنا، فأكلت ما فيها من قطيعة رحم وظلم
3
وتركت اسم الله تعالى لم يمس فأحضروها، فإن كان ابن أخي صادقا علمتم أنكم ظالمون لنا قاطعون لأرحامنا، وإن كان كاذبا علمنا أنكم على حق وأنا على باطل. فقاموا سراعا وأحضروها من جوف الكعبة حيث كانوا علقوها؛ لتكون حجة على المشركين فيما بينهم، فوجدوا الأمر كله كما قال رسول الله. فقويت نفس أبي طالب واشتد صوته، وقال: قد تبين لكم أنكم أولى بالظلم والقطيعة. فنكسوا رءوسهم، ثم قالوا: إنما تأتوننا بالسحر والبهتان، وأرادوا أن يتملصوا من هذا البرهان العظيم، ولكن قام من بين المشركين نفر من أجوادهم منهم هشام بن عمرو، وزهير بن أمية، والمطعم بن عدي، وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، وأعلنوا نقض الصحيفة
4
Bog aan la aqoon