فقال العمدة: هو في المنفى.
فقال فؤاد في لهفة كأنه نجا من خطر: وكم مضى عليه فيه؟
فقال العمدة: منذ أسبوع.
فقال فؤاد: أذلك بعد خروجه من السجن؟
فقال العمدة في خبث: لم يسجن إذ لم تثبت عليه التهمة، ولكن الحكومة لا تترك مثله في هذه الأيام السوداء ليفسد في الأرض، ليس في مثل هذه الأيام فراغ لأمثال قوية يا سيدي النائب.
12
قوية في المنفى! قد يقرأ الناس هذا النبأ الصغير في صحيفة أنباء أو قد يسمعون ذلك الاسم عرضا في جمع فلا يقف أحدهم ليسأل نفسه من يكون قوية؟ إنه لا يزيد عندهم على اسم يسمى به أحد أولئك «الأشقياء» الذين ينفون من البلاد إلى الأطراف البعيدة ليأمن الناس شرور اعتدائهم، إذ هم يعيشون كما تعيش الذئاب تلتمس أرزاقها خطفا من حيث يتاح لها أن تخطف، فإذا ما سدت عليها السبل أو هيجت من مكامنها المظلمة ثارت على الخلق جميعا تعقر من تلقى منهم في سبيل النجاة، ولكن قوية كان عند فؤاد إنسانا له قلب يحس ويحب ويخلص، وقد عرفه وعاشره وسبر دخيلته، وشاركه في قطعة من حياته كما يشارك بعض الناس بعضا، وقد داخله في أمره الشك حينا يوم اتهم بالسرقة، ثم سمع صوته وهو يقسم بتربة أمه فزال شكه وعرف أنه صادق بريء، وأنه ضحية مكر خبيث من رجل يلبس ثياب العظماء، فيحتمي بها ويرتكب جرائمه في سترها، ولكنه مع ذلك تركه لقضائه فلم يحرك في نصرته ساكنا؛ لأنه خشي أن يجره التدخل في أمره إلى أن يكون موضع شبهة أو أن يكون هدفا لسخرية، فكان في ذلك إنسانا تستبد به الأنانية كسائر الناس يؤثر أن يتقي خدشا يصيبه غير مبال أن يصير صاحبه إلى الهلاك.
فكان قلبه دائم الثورة عليه وهو مقبل على التحقيق في مقتل إبراهيم ميسور، وما دام قوية المسكين قد ذهب إلى منفاه فمن ذا الذي قتل ذلك الرجل المخيف؟ أكان لقوية أهل ينتقمون له من ورائه؟ لم يكن له سوى أخيه سلومة وقد سبقه إلى السجن المؤبد، فهو يرسف هناك في قيوده، ولا يدري أحد إذا كان ما يزال حيا أم قد انحدرت عليه صخرة من الجبل فدكته دكا، أتكون تعويضة هي التي انتقمت لظلم صاحبها؟ أتقوى امرأة مثلها على قتل رجل مثله يحيط به الحراس أينما سار؟ لقد ضحك فؤاد ساخرا من نفسه عندما خطر له ذلك الخاطر، ومضت أسابيع في التحقيق حتى بلغت منه الحيرة مبلغا إذ لم يجد حوله إلا ظلاما دامسا ليس فيه شعاع من النور، وحدثته نفسه مرارا بالتخلي عن التحقيق؛ لأنه كان يحس في قرارة نفسه مقتا لذلك القتيل الذي جاء يريد القبض على قاتله، ولكنه مع ذلك مضى في تحقيقه؛ إذ لم يجد عذرا يعتذر به عن ذلك التخلي.
وقد دل التحقيق على أن إبراهيم ميسور كان يقيم ليلة مقتله في بيته وراء أسواره العالية، وكان خدمه وأتباعه يحلون في كل ركن من الأركان، فلم يكن بالبيت موضع لمتربص ولا لمتدسس، ولكن هؤلاء جميعا قالوا إنهم لم يعلموا من أمر الجريمة شيئا، حتى كاد فؤاد يذهب إلى أنها مؤامرة مبيتة بين أتباعه أنفسهم.
ولكنه كان كلما ذهب مذهبا من الشك لم يلبث أن يرتد عنه خائبا، فقد كان ميسور عماد هؤلاء جميعا ، وما كان أحد منهم ليرجو أن ينال خيرا بزواله، كان مع قسوته وغلظته يظلهم جميعا بحمايته ويبسط لهم على الريف سلطانا ورهبة، ولم يكن له في قلب من قلوبهم إلا الإكبار والعرفان، على أن الحقائق لم تدع لتلك الشكوك مجالا، فقد دخل السيد إلى مخدعه بعد العشاء وأغلق بابه عليه كما اعتاد كل مساء، وكانت حجرته في الصباح مغلقة ليس عليها أثر من اعتداء، وأما هو فقد وجد في الصباح الباكر قتيلا فوق جسر الترعة ومفتاح الحجرة في جيب ثوبه، وكان مطعونا في صدره بخنجر لم يوجد له أثر مع طول البحث ودقته، فلا شك في أنه قد خرج مختارا، وأنه أغلق بابه مطمئنا عن قصد، ثم ذهب إلى حيث قتل بغير أن يحس أحد بخروجه، فما الذي بعثه على كل هذا؟
Bog aan la aqoon