كان فؤاد يفكر في كل هذا وهو سائر أحيانا، ثم وهو مضطجع أحيانا يستريح من أثر الجهد، أو وهو يقرأ في كتابه فيسرح بين سطوره لا يكاد يرده من سرحته إلا أزيز المسرة إذ تدعوه إلى مفاجأة طارئة.
وكان في سرحة من هذه السرحات في بكرة الصباح عندما رن الجرس فهب في شيء من الذعر يستمع إلى الصوت الذي دعاه، وكان صوت رئيسه يأمره بأن يذهب مسرعا للتحقيق في جريمة جديدة، سرقة في الليل، صاحبها نقب في جدران عزبة إبراهيم ميسور، فأحس في جسده شيئا يشبه القشعريرة ثم أسرع يرتدي ملابسه.
وجاء إليه ضابط البوليس وكاتب النيابة فركبوا سيارة انطلقت بهم حتى بلغوا النجيلة وهم جميعا صامتون.
ونزل فؤاد يسير إلى العزبة القديمة التي طالما عرفها ووطئ بقدميه كل أركانها، ولكن أي تبدل طرأ عليها؟ نزل بالدار العزيزة التي صارت أشبه شيء بقصر من قصور الإقطاع، فخيل إليه أنها تنكره وتنظر إليه شزرا، ودخل إلى البهو الذي طالما رأى فيه والده مشرقا بطلعته فلم يجد سوى إبراهيم ميسور.
وكانت الجريمة عجيبة يحيط بها غموض واضطراب، فقد نقب جدار العزبة، وشرع اللصوص يسحبون الماشية ولكنهم لم يسرقوا سوى عجل واحد صغير، وتركوا وراءهم كثيرا من الآثار ولكنها كانت عجيبة، تكاد تثير الشك في حقيقتها، وكانت واضحة فوق الجرن والجسر وعلى الطريق، ولكنها انقطعت بعد ذلك عند طرف الكوم.
وبدأ رجال الضبط في التحقيق ولكنهم لم يستطيعوا الاهتداء إلى شيء ينم على اللصوص إذ كانوا مهرة دهاة، كانت آثار أقدامهم واضحة، ولكنها كانت ذات نعال عجيبة لا يشبه الأيمن منها الأيسر، وكانت مقلوبة فمؤخرها عند أصابع الأقدام، ومقدمها عند العقبين، هكذا دبر اللصوص أمرهم في دهاء وحرص ليضللوا المحقق والمقتفي، فلما اطلع فؤاد على تلك الآثار عجب من عمقها في الأرض وانتظام رسمها، كأن اللصوص كانوا في غير حاجة إلى العجلة.
وأحس إحساسا غامضا بأن ظاهر هذا الحادث غير باطنه، واشتدت رغبته في استجلاء ذلك الغموض، وكان في قرارة نفسه يشعر بشيء من سوء الظن بصاحب العزبة الذي عرفه وسمع عنه.
وأخذ يسمع أقوال الشهود واحدا بعد واحد محترسا في إثباتها حتى لا يضيع حرف منها.
ودعا أحد الحراس ليصف ما رآه، فقال كأنه يعيد قصة محفوظة: تعودت عند حراستي أن أكون قريبا من حظيرة المواشي؛ لأنها معرضة للسرقة من ناحية الحقول والكوم، ولكني كنت في تلك الليلة محموما فاستأذنت السيد في الاعتكاف، ولكني سمعت صياح أهل القرية فقمت متلفعا بغطائي ولم تكن بندقيتي معي، ولو عرفت أن هناك لصوصا لما تركتها ورائي ولوضعت رصاصة في أحشاء ذلك اللص الذي لمحته من بعيد يجري، ولكني عرفته من هيئته، عرفته وهو يتجه نحو الكوم.
وسكت لحظة لينظر أثر قوله في وجه المحقق.
Bog aan la aqoon