من ذلك اليوم تعودت هذه الأسرة أن تعبر النيل إلى مقر الموتى من حين إلى حين، وكانت من قبل ذلك تعيب الذين يزورون الموتى.
ومن ذلك اليوم تغيرت نفسية صبينا تغيرا تاما ... عرف الله حقا، وحرص على أن يتقرب إليه بكل ألوان التقرب؛ بالصدقة حينا، وبالصلاة حينا آخر، وبتلاوة القرآن مرة ثالثة، ولقد شهد الله ما كان يدفعه إلى ذلك خوف ولا إشفاق ولا إيثار للحياة، ولكنه كان يعلم أن أخاه الشاب كان من أبناء المدارس، وكان يقصر في أداء واجباته الدينية؛ فكان الصبي يأتي ما يأتي من ضروب العبادة يريد أن يحط عن أخيه بعض السيئات. كان أخوه في الثامنة عشرة من عمره، وكان الصبي قد سمع من الشيوخ أن الصلاة والصوم فرض على الإنسان متى بلغ الخامسة عشرة، فقدر الصبي في نفسه أن أخاه مدين لله بالصوم والصلاة ثلاثة أعوام كاملة، وفرض الصبي على نفسه ليصلين الخمس في كل يوم مرتين: مرة لنفسه ومرة لأخيه، وليصومن من السنة شهرين: شهرا لنفسه وشهرا لأخيه، وليكتمن ذلك عن أهله جميعا، وليجعلن ذلك عهدا بينه وبين الله خاصة، وليطعمن فقيرا أو يتيما مما تصل إليه يده من طعام أو فاكهة قبل أن يأخذ بحظه منه. وشهد الله لقد وفى الصبي بهذا العهد أشهرا، وما غير سيرته هذه إلا حين ذهب إلى الأزهر.
من ذلك اليوم عرف الصبي أرق الليل؛ فكم أنفق سواد الليل كاملا يفكر في أخيه أو يقرأ سورة الإخلاص آلاف المرات، ثم يهب ذلك كله لأخيه، أو ينظم شعرا على نحو هذا الشعر الذي كان يقرؤه في كتب القصص يذكر فيه حزنه وألمه لفقد أخيه، معنيا بألا يفرغ من قصيدة حتى يصلي في آخرها على النبي، واهبا ثواب هذه الصلاة لأخيه.
نعم! ومن ذلك اليوم عرف الصبي الأحلام المروعة؛ فقد كانت علة أخيه تتمثل له في كل ليلة. واستمرت الحال كذلك أعواما، ثم تقدمت به السن، وعمل فيه الأزهر عمله، فأخذت علة أخيه تتمثل له من حين إلى حين. وأصبح فتى ورجلا، وتقلبت به أطوار الحياة، وإنه لعلى ما هو عليه من وفاء لهذا الأخ، يذكره ويراه فيما يرى النائم مرة في الأسبوع على أقل تقدير.
ولقد تعزى عن هذا الفتى إخوته وأخواته، ونسيه من نسيه من أصحابه وأترابه، وأخذت ذكراه لا تزور أباه الشيخ إلا لماما، ولكن اثنين يذكرانه دائما، وسيذكرانه أبدا أول الليل من كل يوم، هما: أمه وهذا الصبي.
الفصل التاسع عشر
«أما في هذه المرة فستذهب إلى القاهرة مع أخيك، وستصبح مجاورا، وستجتهد في طلب العلم. وأنا أرجو أن أعيش حتى أرى أخاك قاضيا وأراك من علماء الأزهر، قد جلست إلى أحد أعمدته ومن حولك حلقة واسعة بعيدة المدى.»
قال الشيخ ذلك لابنه آخر النهار في يوم من خريف سنة 1902، وسمع الصبي هذا الكلام فلم يصدق ولم يكذب، ولكنه آثر
1
أن ينتظر تصديق الأيام أو تكذيبها له، فكثيرا ما قال له أبوه مثل هذا الكلام، وكثيرا ما وعده أخوه الأزهري مثل هذا الوعد، ثم سافر الأزهري إلى القاهرة، ولبث الصبي في المدينة يتردد بين البيت والكتاب والمحكمة ومجالس الشيوخ.
Bog aan la aqoon