فهم صاحبنا هذه الأطوار من حياة أبي العلاء حق الفهم؛ لأنه رأى نفسه فيها، فكم كان يتمنى طفلا لو استطاع أن يخلو إلى طعامه، ولكنه لم يكن يجرؤ على أن يعلن إلى أهله هذه الرغبة. على أنه خلا إلى بعض الطعام أحيانا كثيرة، ذلك في شهر رمضان وفي أيام المواسم الحافلة، حين كان أهله يتخذون ألوانا من الطعام حلوة، ولكنها تؤكل بالملاعق؛ فكان يأبى أن يصيب منها على المائدة، وكانت أمه تكره له هذا الحرمان، فكانت تفرد له طبقا خاصا وتخلي بينه وبينه في حجرة خاصة، يغلقها هو من دونه حتى لا يستطيع أحد أن يشرف عليه وهو يأكل.
على أنه عندما استطاع أن يملك أمر نفسه اتخذ هذه الخطة له نظاما، بدأ بذلك حين سافر إلى أوروبا لأول مرة، فتكلف التعب وأبى أن يذهب إلى مائدة السفينة، فكان يحمل إليه الطعام في غرفته. ثم وصل إلى فرنسا فكانت قاعدته إذا نزل في فندق أو في أسرة أن يحمل إليه الطعام في غرفته دون أن يتكلف الذهاب إلى المائدة العامة، ولم يترك هذه العادة إلا حين خطب قرينته، فأخرجته من عادات كثيرة كان قد ألفها.
هذه الحادثة أخذته بألوان من الشدة في حياته، جعلته مضرب المثل في الأسرة وبين الذين عرفوه حين تجاوز حياة الأسرة إلى الحياة الاجتماعية؛ كان قليل الأكل، لا لأنه كان قليل الميل إلى الطعام؛ بل لأنه كان يخشى أن يوصف بالشره أو أن يتغامز عليه إخوته، وقد آلمه ذلك أول الأمر، ولكنه لم يلبث أن تعوده حتى أصبح من العسير عليه أن يأكل كما يأكل الناس. كان يسرف في تصغير اللقمة، وكان له عم يغيظه منه كلما رآه فيغضب وينهره
6
ويلح عليه في تكبير اللقمة، فيضحك إخوته، وكان ذلك سببا في أن كره عمه كرها شديدا. كان يستحي أن يشرب على المائدة مخافة أن يضطرب القدح من يده، أو ألا يحسن تناوله حين يقدم إليه، فكان طعامه جافا ما جلس على المائدة، حتى إذا نهض عنها ليغسل يديه من حنفية كانت هناك، شرب من مائها ما شاء الله أن يشرب، ولم يكن هذا الماء نقيا دائما، ولم يكن هذا النوع من ري الظمأ ملائما للصحة، فانتهى به الأمر إلى أن أصبح ممعودا،
7
وما استطاع أحد أن يعرف لذلك سببا.
ثم حرم على نفسه من ألوان اللعب والعبث كل شيء، إلا ما لا يكلفه عناء ولا يعرضه للضحك أو الإشفاق، فكان أحب اللعب إليه أن يجمع طائفة من الحديد وينتحي
8
بها زاوية من البيت، فيجمعها ويفرقها ويقرع بعضها ببعض، ينفق في ذلك ساعات، حتى إذ سئمه وقف على إخوته أو أترابه وهم يلعبون، فشاركهم في اللعب بعقله لا بيده، وكذلك عرف أكثر ألوان اللعب دون أن يأخذ منها بحظ، وانصرافه هذا عن العبث حبب إليه لونا من ألوان اللهو؛ هو الاستماع إلى القصص والأحاديث؛ فكان أحب شيء إليه أن يسمع إنشاد الشاعر، أو حديث الرجال إلى أبيه، والنساء إلى أمه، ومن هنا تعلم حسن الاستماع. وكان أبوه وطائفة من أصحابه يحبون القصص حبا جما، فإذا صلوا العصر اجتمعوا إلى واحد منهم يتلو عليهم قصص الغزوات والفتوح، وأخبار عنترة والظاهر بيبرس، وأخبار الأنبياء والنساك والصالحين، وكتبا في الوعظ والسنن. وكان صاحبنا يقعد منهم مزجر
Bog aan la aqoon