181

ولكن عودته إلى مصر أثارت بينه وبين المدير الإنجليزي للبعثة خلافا طويلا ثقيلا سخيفا في وقت واحد؛ فقد كان نظام البعثة يقضي بأن يعود الطالب إلى مصر على نفقة الجامعة إن أتم دراسته على الخطة المرسومة له، ولكن صاحبنا لن يعود وحده، بل ستصحبه زوجه، فعلى نفقة من تعود هذه الزوج؟

هنا حار المدير الإنجليزي للبعثة، فكتب إلى الجامعة مستفتيا، وأذنت له الجامعة في أن يعيد الزوجين جميعا، ولكن الزوجين لن يستطيعا العودة إلا إذا عادت معهما أثقالهما. وكانت الكتب أهم هذه الأثقال، فهي أكثر وأضخم من أن توضع في الحقائب، وكثير منها ملك للجامعة سيستقر في مكتبتها آخر الأمر، والانتقال من باريس إلى القاهرة لا يتم بمجرد أن يتسلم المسافر بطاقات السفر في القطار والسفينة، ولكنه يحتاج إلى فضل من النفقة، فمن يؤدي هذا الفضل من النفقة؟ وكذلك احتاج مدير البعثة أن يكتب إلى الجامعة مستفتيا مرة أخرى، وليس شيء أضيع للوقت ولا أفل للجد ولا أدعى إلى السأم والضيق من الجدال الطويل المتصل حول الموضوع السخيف الذي لا خطر له ولا طائل فيه.

وكم ضاق الفتى بما كان يكتب وما كان يتلقى من الرسائل حول هذا السخف الذي لا يغني عنه شيئا، ولكنه وصل مع زوجه إلى مارسيليا عشية اليوم الذي حدد لإبحار السفينة.

ولا يكادان يصلان إلى هذه المدينة حتى يعلما، ويا ثقل ما علما! أن سفينتهما لن تبحر من الغد؛ لأن إضرابا يحول بينها وبين الإبحار، واتصل الإضراب يوما ويوما ويوما. ثم اتصل بعد ذلك حتى بلغ خمسة وعشرين يوما، وليس مع صاحبنا وزوجه وطفلهما ما ينفقان، ولا أمل في الاتصال بمدير البعثة، ولا سبيل إلى الاتصال المباشر بالجامعة، فليقترض إذن من زميله ذاك الذي سيعود معه على السفينة نفسها، والذي ينتظر مثله أن ينقضي الإضراب، والذي لا يخلو جيبه من مال كثير، لا لأنه كان غنيا، بل لأنه كان مدبرا مقتصدا أروع تدبير واقتصاد، وقد أخذ يقترض، وبدأ الزوجان حياتهما المستقلة بالدين وأي دين.

ويبلغان الإسكندرية بعد لأي وقد شق عليهما السفر، وعنف بسفينتهما البحر، ونفد ما اقترضا من المال، ولكن الفتى كان قد كتب إلى صديقه الكريم عليه المؤثر له حسن باشا عبد الرازق محافظ الإسكندرية إذ ذاك بمقدمه، فلا تكاد السفينة ترسو حتى يقبل رسل المحافظ الصديق فيستخلصوا الأسرة من الضيق والشدة والحيرة إلى السعة والدعة والاطمئنان في ذلك البيت الرائق الجميل الذي كان المحافظ قد اتخذه في رمل الإسكندرية.

وفي هذا البيت تقيم الأسرة مع الصديق الكريم رحمه الله أسبوعا قبل أن تمضي إلى القاهرة، ولكنها تؤثر الإقامة في الإسكندرية وتشفق من شظف العيش الذي ينتظرها متى هبطت من القطار، ومن لها بالقطار وصاحبنا لا يملك أجره ولا يجرؤ على أن يتحدث إلى صديقه في ذلك، ولا يستطيع أن يكتب إلى أخيه في القاهرة؛ لأن زوجه لا تكتب العربية، ولأن أخاه لا يقرأ الفرنسية!

وإن الزوجين لفي سمرهما مع المحافظ الصديق ذات ليلة، وإذا هو ينبئهما بأن قد آن لهما أن يسافرا، وآن للفتى أن يقدم نفسه إلى الجامعة التي تعرف وصوله إلى مصر وتنتظر مقدمه إليها.

وقد أعد كل شيء لسفرهما في القطار الذي يبرح الإسكندرية ضحى الغد، فإذا أصبحا وفرغا من طعام الإفطار أقبل الصديق متلطفا يقول لزوج الفتى: أتعرفين النقد المصري؟

قالت متضاحكة: لا. - هاهو ذا فادرسيه على مهل.

ثم ودعهما وانصرف مسرعا فركب عربته إلى مكتبه.

Bog aan la aqoon