وإذا هو لا يعرف الوحدة ولا يجد الوحشة حين يخلو إلى نفسه إذا أظلم الليل، وكيف تجد الوحدة أو الوحشة إلى نفسه سبيلا، وكيف تبلغه تلك الخواطر التي كانت تؤذيه وتضنيه وتؤرق ليله، وفي نفسه صوت عذب رفيق يشيع فيه البر والحنان، ويقرأ عليه هذا الأثر أو ذاك من روائع الأدب الفرنسي القديم؟ •••
يرحم الله أبا العلاء، لقد ملأ نفس الفتى ضيقا بالحياة وبغضا لها، وأيأسه من الخير، وألقى في روعه أن الحياة جهد كلها، ومشقة كلها، وعناء كلها. وإذا هذا الصوت يذود عن نفس الفتى كل ما ألقى فيها أبو العلاء من ظلمة التشاؤم واليأس والقنوط، كأنه تلك الشمس التي أقبلت في ذلك اليوم من أيام الربيع، فجلت عن المدينة ما كان قد أطبق عليها من ذلك السحاب الذي كان بعضه يركب بعضا ، والذي كان يقصف ويعصف حتى ملأ المدينة أو كاد يملؤها إشفاقا وروعا.
وإذا المدينة تصبح كلها إشراقا ونورا.
سمع الفتى ذلك الصوت يقرأ عليه شيئا من شعر راسين ذات يوم. فأحس كأنه خلق خلقا جديدا، ومنذ تلك الساعة التي سمع فيها ذلك الصوت لم يعرف اليأس إلى نفسه سبيلا.
ولم يعرف الفتى أنه أحب الحياة قط كما أحبها في الثامن عشر من شهر مايو في ذلك العام.
ولم يعرف أنه أقبل على الدرس كما أقبل عليه منذ ذلك اليوم.
ولم يعرف أنه انتفع بالاختلاف إلى الجامعة والقراءة في الكتب كما جعل ينتفع بهما منذ ذلك اليوم أيضا ... حتى حين انقطع عنه ذلك الصوت العذب البر الرفيق لمقدم الصيف.
فقد كان الصوت يصحبه دائما، لا يكاد يخلو إلى نفسه في ليل أو نهار إلا سمعه يقرأ عليه هذا الكتاب أو ذاك، في تلك النبرات التي كانت تسبق إلى قلبه فتملؤه رضا وغبطة وسرورا.
وإنه لفي هذه السعادة المتصلة، وإذا صاحبه الدرعمي يقبل عليه ذات صباح مظلم الوجه والنفس والصوت، فينبئه بأن كتابا قد وصل إليه من الجامعة تنبئه فيه بأن طلاب البعثة جميعا يجب أن يعودوا إلى مصر، وأن يأخذوا إليها أول سفينة تتاح لهم بعد قراءة هذا الدعاء.
وقد سمع الفتى حديث صاحبه فأغرق في ذهول عميق، ثم أفاق بعد وقت لم يدر أقصر أم طال، وإذا هو يرى آماله العذاب قد استحالت في أقصر لحظة إلى آمال كذاب، ويرى حياته المشرقة الباسمة الحلوة قد أصبحت ظلمة عابسة مرة ممضة. ولكنه على ذلك لم يستسلم لليأس، وإنما أخذ يتعلق بالوهم، فيبرق إلى من كان يعرف من الصديق القادرين على أن يسعوا له في الخير عند الجامعة أو عند السلطان، ويبرق إلى القصر، وينتظر ما يعود به البرق عليه، وإذا البرق لا يعود عليه إلا بالإلحاح في الدعاء أن يعود إلى مصر في غير إبطاء.
Bog aan la aqoon