وقرأ الفتى ذات يوم في الجريدة حديثا لأحد القراء يطرح فيه موضوعا لمسابقة شعرية، ويجعل لهذه المسابقة جائزة هي كتاب «الأمالي» لأبي علي القالي، ويحكم بين المستبقين الأستاذ حفني ناصف وتلميذه ذاك الفتى. وأنكر صاحبنا أن يقرن إلى أستاذه، وأحس شيئا من غرور، ولكن يجلس ذات مساء في بيته بدرب الجماميز مع جماعة من رفاقه يأخذون في بعض ما كانوا يخوضون فيه من حديث، وإنهم لفي ذلك وقد تقدم بهم الليل وإذا الباب يطرق عليهم. فإذا أدخل الطارئ، وجم الفتى ودهش الرفاق؛ فلم يكن الطارق إلا الأستاذ حفني بك ناصف، قد جمع شعر المستبقين في الجريدة، وسعى به إلى تلميذه في بيته ذاك في الطبقة السادسة من تلك الدار التي كان يسكنها، وقال له في رفق عذب: «أتيت لأخلو إليك ساعة نفرغ فيها من قضية هؤلاء المستبقين.»
وكان من بين الأساتذة المصريين الشيخ محمد الخضري رحمه الله؛ كان يدرس التاريخ الإسلامي، وقد سحر الفتى بعذوبة صوته وحسن إلقائه وصفاء لهجته، وأحب دروسه في السيرة، وفي تاريخ الخلفاء الراشدين وفتوحهم، وفي تاريخ الفتن ودولة بني أمية والصدر الأول من دولة العباسيين. وكان يظن أن ليس فوق علم الأستاذ علم، ولكنه لم يكد يسمع دروس التاريخ في أوروبا حتى عرف أن الأستاذ رحمه الله كان ينقل دروسه نقلا من كتب القدماء في غير نقد ولا تعمق، وفي أيسر ما كان يمكن من فقه التاريخ.
وكان من الأساتذة المصريين أستاذان أحبهما الفتى أشد الحب، وعبث بهما أشد العبث، واستغل سذاجتهما ووداعتهما أشنع الاستغلال. كان أحدهما الشيخ محمد المهدي رحمه الله، أقبل يدرس الأدب العربي بعد حفني ناصف، فكان الفرق بين الأستاذين خطيرا بعيد المدى؛ كان أحدهما عميق العلم، وكان الآخر أبعد ما يكون عن العمق، كان أحدهما سمحا لا يتكلف ولا يتصنع، وكان الآخر متكلفا متفاصحا لا يتكلم إلا العربية الفصحى مغربا فيها يملأ بها فمه، وربما أضحك منها طلابه. وكان يقدم السيجارة إلى الفتى، فإذا هم الفتى أن يشعلها قال له: «انتظر يا بني حتى ألفها لك!» ولم يكد الطلاب يسمعون هذه الكلمة حتى يغرقوا في ضحك لا يستخفون به، وكان الأستاذ يضحك معهم ويغرق في الضحك!
وكان الفتى جريئا عليه يجادله في الدرس فيرهقه من أمره عسرا، وربما أضحك منه الطلاب؛ لأنه كان لا يحقق ما يروي من الشعر، ولأن الفتى كان يرده إلى الصواب، فيظهر عليه الاضطراب. وقد حاول أن يصده عن هذا الجدال، ويصرف أترابه عن هذه الجراءة، فدعاهم ذات يوم إلى الغداء في داره، وقدم إليهم من طيبات الطعام ما لم يكن لأكثرهم به عهد، وظن أنه قد ردهم إلى شيء من الحياء. ولكنه لم يلبث أن تبين أنه لم يزد على أن أطمعهم في نفسه، ورغبهم في طعامه، وزادهم عليه اجتراء. وكانت سيرة الفتى مع هذا الأستاذ الكريم مسرفة على الفتى وعلى الأستاذ جميعا حتى أوشكت أن تترك في حياة الفتى آثارا منكرة.
وضع الفتى رسالته التي تقدم بها للدكتوراه، ونقد فيها أستاذه مصرحا باسمه، وكان الأستاذ من الممتحنين، فضاق بهذا النقد، وأبى في أثناء المداولة أن يمنح الفتى درجة الامتياز، ولم يكن سبيل إلى هذه الدرجة إلا إذا أجمع عليها الممتحنون؛ فاضطرت اللجنة إلى أن تنزل بالفتى من درجة فائق إلى جيد جدا.
وسافر الفتى إلى أوروبا فأقام بها عاما، ثم عاد منها في خطوب سيأتي حديثها.
وفي أثناء إقامته في مصر ذهب إلى الجامعة واستمع لدرس الأستاذ الشيخ مهدي، ثم خرج فكتب عن هذا الدرس مقالا في مجلة «السفور»، نقد الأستاذ فيه نقدا مرا ممضا. وأسرع الأستاذ فكتب إلى مجلس الجامعة شاكيا من هذا التلميذ المتمرد، طالبا إلغاء بعثته عقابا له على هذا التمرد، وكان أن أمر المجلس بالتحقيق مع الفتى، وكلف ثروت باشا وعلوي باشا رحمهما الله والأستاذ أحمد لطفي السيد، سؤال الفتى عن هذا المقال، فلم ينكر من مقاله شيئا، ولم ير لأحد الحق في أن يعاقبه على نقد حر بريء، لم يرد به إلا الخير، ولم ير لأحد حقا في أن يسأله في هذا النقد. وتضاحك المحققون، وكلف مجلس الجامعة الأستاذ أحمد لطفي السيد أن يصلح بين الأستاذ الغاضب والتلميذ المتمرد، فحضر الأستاذ لطفي السيد ذات مساء درس الشيخ، ثم دعاه ودعا التلميذ إلى العشاء، وفي العشاء كان الصلح، وعاد الفتى بعد ذلك إلى أوروبا موفورا.
وكان الأستاذ الآخر الذي ملأ الجامعة فكاهة ودعابة، وملأ الطلاب عبثا به واجتراء عليه، وملأ بطون الطلاب من طعامه، وهو الشيخ طنطاوي جوهري رحمه الله.
كان يدرس الفلسفة الإسلامية بعد الأستاذ محمد سلطان وبعد الأستاذ سنتلانا خاصة. وكان يتكلم كثيرا ولا يقول شيئا، وكانت كلمات الجمال والجلال والبهاء والكمال والروعة والإشراق أكثر الكلمات جريانا على لسانه منذ يبدأ الدرس إلى أن يتمه. وكان لا ينطق بكلمة منها إلا مد ألفها فأسرف في المد، وربما أخذه شيء من ذهول وهو يمد هذه الألف فيغرق الطلاب في ضحك يخافت به بعضهم ويجهر به بعضهم الآخر؛ ويفيق الأستاذ من ذهوله على هذا الضحك، فيلوم الطلاب لا على أنهم يضحكون، بل على أنهم لا يشاركونه في الإعجاب بجمال الطبيعة وجلال الكون وبهاء القمر حين يرسل ضوءه المشرق على صفحة النيل، ويمد ياء النيل فيسرف في مدها ويأخذه ذهول يرد الطلاب إلى ضحك متصل.
وفي ذات يوم ختم الأستاذ دروس العام، وقرر الطلبة قبل الدرس أن يكون الفتى لسانهم في شكر الأستاذ على دروسه القيمة، واشترطوا عليه أن يشكر الأستاذ بكلام غير مفهوم، واشترط عليه الأستاذ إبراهيم مصطفى ألا تخلو جملة من حديث الشكر هذا الذي يجب أن يكون طويلا من إحدى هذه الكلمات الست: الجمال والجلال والبهاء والكمال والروعة والإشراق.
Bog aan la aqoon