فإذا دخلوا عليه لم يقم لهم، وإنما تلقاهم مستبشرا فرحا، ثم دعاهم إلى الجلوس حيث يستطيعون، ودعا أحدهم إلى صنع القهوة وإدارتها عليه وعليهم، ثم تحدث إليهم لحظات، ثم دعاهم إلى أن يشاركوه فيما كان بسبيله من بحث أو تحقيق.
ولم ينس الفتى وأحد صديقيه أنهما زارا الشيخ ذات يوم حين صليت العصر، فلما صعدا إليه لقيا شيخا قد جلس على فراش متواضع ألقي في هذا الدهليز، وإلى جانبه امرأة محطمة قد انحنت حتى كاد رأسها يبلغ الأرض والشيخ يطعمها بيده، فلما رأى تلميذيه هش لهما، وأمرهما أن ينتظراه في غرفته شيئا، ثم أقبل عليهما بعد حين وهو يقول ضاحكا راضي النفس: «كنت أعشي أمي.»
كان هذا الشيخ إذا خرج من داره صورة الوقار والدعة، وأمن النفس وطمأنينة القلب وصفاء الضمير. وكان صورة الغنى واليسار، لا يحس من يتحدث إليه إلا رجلا قد يسر عليه في الرزق، فهو يعيش عيشة أمن وهناءة وهدوء.
ولكن تلاميذه وخاصته كانوا يعلمون حق العلم أنه كان من أشد الناس فقرا وأضيقهم يدا، وأنه كان ينفق الأسبوع أو الأسابيع لا يطعم إلا خبز الجراية يغمسه في شيء من الملح، وكان على ذلك يعلم ابنه تعليما ممتازا، ويرعى غيره من أبنائه الذين كانوا يطلبون العلم في الأزهر رعاية حسنة، ويدلل ابنته تدليلا مؤثرا، يصنع هذا كله براتبه الضئيل الذي لم يكن يتجاوز ثلاثة جنيهات ونصف الجنيه. كان من أصحاب الدرجة الأولى، فكان يتقاضى جنيها ونصف جنيه لذلك، وكان الأستاذ الإمام قد كلفه درس الأدب فكان يتقاضى لذلك جنيهين، وكان يستحي أن يقبض راتبه أول الشهر، ويكره أن يختلط بالعلماء وهم يتهافتون على «المباشر» ليتقاضوا منه رواتبهم، فكان يدفع خاتمه إلى تلميذ من خاصته ليقبض له هذا الراتب الضئيل في الضحى ويؤديه إليه بعد الظهر.
كذلك كان يعيش هذا الشيخ، وكان تلاميذه يرونه ويشاركونه في حياته تلك البائسة الحرة الممتازة، وكانوا يرون ويسمعون من أمر شيوخ آخرين ما كان يملأ قلوبهم غيظا وحقدا، ونفوسهم ازدراء واحتقارا، فأي غرابة في أن يفتنوا بشيخهم ويتأثروه في سيرته وفي مذهبه وفي ازدرائه للأزهريين وثورته بما كان لهم من تقاليد!
لم ينكر تلاميذ الشيخ عليه في ذلك العهد إلا أنه انحرف ذات يوم عن الوفاء للأستاذ الإمام حين تولى الشيخ الشربيني مشيخة الأزهر، فنظم الشيخ قصيدة يمدح فيها الشيخ الجديد، وكان تلميذا للشيخ ومحبا له، وكان الشيخ الشربيني خليقا بالحب والإعجاب. وأملى الشيخ المرصفي على تلاميذه قصيدته التي سماها ثامنة المعلقات، والتي عارض بها قصيدة طرفة، فلما فرغ من إملائها والتف حوله تلاميذه، مضى في الثناء على أستاذه، وعرض بالأستاذ الإمام شيئا، فرده بعض تلاميذه في رفق، فارتد أسفا خجلا واستغفر الله من خطيئته.
وكذلك اندفع هؤلاء التلاميذ فيما دفعهم إليه حبهم للشيخ وتأثرهم به، فأسرفوا على أنفسهم وعلى شيخهم أيضا.
لم يكتفوا بهذا العبث الذي كانوا يعبثونه بالشيوخ والطلاب، ولكنهم جعلوا يجهرون بقراءة الكتب القديمة وتفضيلها على الكتب الأزهرية، يقرءون «كتاب سيبويه» أو كتاب «المفصل» في النحو، ويقرءون كتابي عبد القاهر الجرجاني في البلاغة، ويقرءون دواوين الشعراء لا يتحرجون في اختيار هذه الدواوين ولا في الجهر بإنشاد ما كان فيها من شعر المجون أحيانا في الأزهر. ويقلدون هذا الشعر، ويتناشدون ما ينشئون من ذلك إذا التقوا، والطلاب ينظرون إليهم شزرا، ويتربصون بهم الدوائر، وينتهزون بهم الفرص. وربما أقبل عليهم بعض الطلاب الناشئين يسمعون منهم ويتحدثون إليهم، ويريدون أن يتعلموا منهم الشعر والأدب، فيغيظ ذلك نظراءهم من الطلاب الكبار ويزيدهم موجدة عليهم وائتمارا بهم.
وفي ذات يوم كان صاحبنا يعد مع صديقيه درس «الكامل»، فعرضت لهم هذه الجملة من كلام المبرد: «ومما كفرت الفقهاء به الحجاج قوله والناس يطوفون بقبر النبي ومنبره: إنما يطوفون برمة وأعواد.» فأنكر صاحبنا أن يكون في كلام الحجاج ما يكفي لتكفيره، وقال: لقد أساء الحجاج أدبه وتعبيره، ولكنه لم يكفر، وسمع بعض الطلاب ذلك فأنكروه، ثم تناقلوه.
وإن فتياننا الثلاثة لفي مجلسهم حول الشيخ عبد الحكم عطا، وإذا هم يدعون إلى حجرة شيخ الجامع، فيذهبون واجمين لا يفهمون شيئا، فإذا دخلوا على الشيخ «حسونة» لم يجدوه وحده وإنما وجدوا من حوله أعضاء مجلس إدارة الأزهر وهم من كبار العلماء؛ فيهم الشيخ بخيت، والشيخ محمد حسنين العدوي، والشيخ راضي وآخرون، ويلقاهم الشيخ متجهما، ثم يأمر رضوان رئيس المشدين أن يدعو من عنده من الطلاب، فيقبل جماعة من الطلاب فيسألهم الشيخ عما عندهم، ويتقدم أحدهم فيتهم هؤلاء الفتية بالكفر لمقالتهم في الحجاج، ثم يقص من أمرهم الأعاجيب.
Bog aan la aqoon