فلم يكن للفتى بد إذن من أن يمضي في طريقه الأزهرية حتى يبلغ غايتها. وكانت هذه الطريق تتشعب إلى شعبتين إذا قضى الطالب ثلاثة أعوام أو أربعة في الأزهر؛ إحداهما علمية: وهي الاختلاف إلى الدروس والتنقل في مراحل العلم، وكان الفتى ماضيا فيها، أقبل عليها مشغوفا بها، ثم فترت همته، ثم ازدراها وانصرفت عنها نفسه حين استيأس من الأساتذة وساء ظنه بالشيوخ.
والثانية مادية: وكانت تتألف من مراحل ثلاث: مرحلة المنتسب، ومرحلة المنتظر، ومرحلة المستحق. أما مرحلة المنتسب: فهي المرحلة التي يبدأ الطالب بها حياته الأزهرية بعد أن يتم تقييده في سجلات الأزهر. ولم يكن له بد من أن ينتسب إلى أحد الأروقة، وقد انتسب صاحبنا كما انتسب أخوه إلى رواق الفشنية. وأما مرحلة المنتظر: فقد كانت المرحلة الثانية، ينتقل إليها الطالب بعد أن يقيم أعواما في الأزهر، وسبيله إلى ذلك ورقة يكتبها ويرفعها إلى شيخ الرواق يعين فيها ما أنفق في الأزهر من عام وما حضر فيه من درس، ويشهد على صدقه فيما سجل فيها شيخان من شيوخه. ويطلب إلى شيخ الرواق أن يقيد اسمه بين أسماء المنتظرين. حتى إذا خلا مكان بين المستحقين للجراية ارتقى إليه فبلغ المرحلة الثالثة ونال جرايته رغيفين أو ثلاثة أو أربعة، على اختلاف بين الأروقة في ذلك.
فلم يكن بد لصاحبنا من أن يرقى إلى مرحلة المنتظرين، وقد كتب الورقة وختمها بالجملة التي كانت شائعة إذ ذاك: «جعلكم الله ملجأ للقاصدين.»
وشهد شيخان أنه لم يقل في هذه الورقة إلا حقا. وذهب إلى الشيخ في داره فرفع إليه الورقة بعد أن قبل يده وانصرف. فانتظر وطال الانتظار، ولم يظفر بالجراية قط في هذا الرواق، ولكن ارتقاءه إلى مرحلة المنتظرين أرضى أباه وملأ فمه فخرا على كل حال.
وبينما كان ينتظر في طائل أو في غير طائل خرج الأستاذ الإمام من الأزهر في تلك القصة المعروفة، وبعد تلك الخطبة المشهورة التي ألقاها الخديوي على بعض العلماء.
وكان الفتى يظن أن تلاميذ الشيخ - وكانوا كثيرين يكتظ بهم الرواق العباسي في كل مساء - سيحدثون حدثا، وسينبئون الخديوي بأن شباب الأزهر قد تغيروا، وبأنهم سيذودون عن شيخهم، وسيبذلون في سبيل ذلك لا أوقاتهم وحدها بل أرواحهم أيضا.
ولكن الشيخ ترك الأزهر واتخذ دارا للإفتاء؛ فلم يزد تلاميذه على أن حزنوا وتحدثوا بالأسف فيما بينهم وبين أنفسهم، وزار قليل منهم الشيخ في داره بعين شمس، وانصرف عنه أكثرهم، وانتهى الأمر عند هذا الحد. فامتلأت نفس الفتى حزنا وغيظا، وساء ظنه بالطلاب كما ساء ظنه بالشيوخ، ولم يكن مع ذلك قد عرف الأستاذ الإمام أو قدم إليه.
وبعد ذلك بقليل توفي الأستاذ الإمام، فاضطربت مصر لوفاته، وكانت البيئة الأزهرية أقل البيئات المصرية اضطرابا لهذا الحادث الجلل. وأسف تلاميذ الشيخ، ولعل قليلا منهم سفحوا بعض الدموع، ولكنهم أقبلوا بعد الصيف على دروسهم، كأن الشيخ لم يمت، أو كأن الشيخ لم يكن، لولا أن الخاصة من تلاميذه كانوا يذكرونه بالخير بين حين وحين.
وكذلك عرف الفتى في ألم لاذع ولأول مرة في حياته الناشئة أن ما يقدم إلى عظماء الرجال من ألوان الإكبار والإجلال وضروب التملق والزلفى لغو لا طائل تحته ولا غناء فيه، وأن وفاء الناس ينحل في أكثر الأحيان إلى كلام لا يفيد.
وزاد سوء الظن بالناس في نفس الفتى قوة ما لاحظه في بعض البيئات من انتهاز وفاة الشيخ فرصة للاتجار باسمه، واستغلال الصلة به، يتوسلون إلى ذلك بالشعر حينا وبالنثر حينا آخر، وبالإعلان في الصحف والمجلات دائما.
Bog aan la aqoon