وقصدت إلى كوبري سان فرانسسكو الجبار - كوبري أوكلاند - ظانا أنني مستطيع أن أسير عليه لأستمتع بلمسه، وهو كوبري يكاد يبلغ طوله ما يساوي المسافة بين وسط القاهرة وهرم الجيزة، يرتكز في وسطه على صخرة، واعتماده بعد ذلك على التوازن وارتكاز نصفيه أحدهما على الآخر ... وبعد أن سرت تجاهه نحو ساعة ، التمست طريقي مهتديا بالخريطة حينا وبالسؤال حينا، وجدت ألا مكان به للمشاة! ... وبينما كنت أتحدث - وأنا في طريقي إلى الكوبري - مع رجل استفسرته الطريق، جاء رجل أسود وخاطب محدثي قائلا : اسمح لي بكلمة واحدة ... فقاطعه الأبيض قائلا: لا مال ... عاد الأسود يقول: اسمح لي بكلمة واحدة ... فقاطعه الأبيض قائلا: لا مال ... فانصرف الزنجي، ومشيت أحدث الأبيض فقال لي هذا: مساكين هؤلاء الزنوج؛ إنهم مرضى، هذه هي العلة الأساسية لتدهورهم، قد تسمع من كثيرين قولهم بأن الزنوج لا يصلحون للعمل، وأنهم بغير كفاية، وما إلى ذلك، لكن لا، هم مرضى لا أكثر ولا أقل، ولو عولجوا لصلح أمرهم.
صممت أن أذهب إلى طرف المدينة الشمالي، إلى حيث شاطئ المحيط، وركبت سيارة عامة إلى هناك ... «الكورنيش» عند نقطة نزولي من السيارة العامة شبيه جدا «بالكورنيش» في الإسكندرية عند سيدي بشر، لكن الشارع ضعف شارع الإسكندرية اتساعا؛ هناك «لونابارك» ودكاكين ومطاعم ومحلات للهدايا ولعب الأطفال ... المكان بصفة عامة لا يليق بجمال سان فرانسسكو ... وعلى شارع المحيط آنا بعد آن ترى منظارا مقربا مثبتا على قائمة، فتضع فيه قطعة من النقد إذا شئت أن تستخدمه لرؤية المحيط عند أبعاد لا يأتي إليك بها نظرك المجرد.
كنت في نشوة أن أراني سائرا إلى جانب المحيط الهادي، وتمنيت عندئذ أن أتذكر القصيدة الإنجليزية «عند أول نظرة إلى المحيط الهادي» ... جزء كبير من شارع المحيط يحف به حائط الجبل صخرا خشنا لا أظنه يصلح للصعود، على جزئه الأعلى خضرة وشجر، وترى في حضن الحائط الجبلي طواحين هوائية ... وبعد مشية قصيرة وصلت إلى «بيت الصخرة» الذي يقال إنه معروف في العالم كله بجودة طعامه وحسن موقعه ... دخلته، ومن المصادفات السعيدة أن دخل في اللحظة نفسها عروسان بثياب العرس، ومعهما مجموعة من الأصدقاء تحمل طاقات من الزهر الجميل، فاستبشرت بذلك.
على مقربة من «بيت الصخرة» وفي وسط ماء المحيط صخرتان كبيرتان تعرفان باسم «صخرتا سباع البحر»؛ لأنهما تموجان بما عليهما من سباع البحر ... وأمام «بيت الصخرة» في الشارع تمثال كبير لبوذا، لكنه بوذا بثياب الحرب! ولا أفهم لهذا معنى إلا أن يكون المقصود أن هذه هي البوذية التي جاء بها الصينيون إلى هذه البلاد، بوذية كفاح أو شيء كهذا ... وكذلك يقوم على جانب التمثال عمود طويل جدا يمثل الفن الهندي القديم (أعني فن الهنود الحمر، سكان البلاد الأصليين)، وهو عبارة عن أمساخ ركب أحدها فوق الآخر حتى يتكون من سلسلتها عمود طويل.
وزرت الميناء حيث عشرات السفن أحجاما مختلفة، وأردت أن أعود من الميناء إلى وسط المدينة بالترام؛ ففي سان فرانسسكو ترام «أثري» يحتفظون به ليكون معلما من معالم المدينة، وهو الترام الذي يطلق عليه «عربات الحبل»؛ لأنه يشد بحبل معدني ضخم ممتد تحت الأرض تسمع كركرته تحت القضبان، الحبل يتحرك تحت الأرض بقوة الكهرباء، ويكفي لسائق الترام أن يزيح مفتاحا قابضا لتمس العربة ذلك الحبل المتحرك، فيسير مع حركته.
ركبت هذا الترام في شارع صاعد فكنت كأنني في عربة من عربات «اللونابارك»، والشارع صاعد إلى قمة تسمى «تل نب»، وأصل التسمية أنه على هذه القمة كان يسكن أثرى الأثرياء الذين أنشئوا الخطوط الحديدية في أمريكا، ولما كانوا يسكنون القصور الفخمة هناك، أطلق الناس على هذه البقعة اسم «نابب» (التي هي كلمة كانت تطلق على أمراء الهند)، ثم اختصرت الكلمة مع الزمن فأصبحت «نب»، ولا يزال التل معروفا بهذا الاسم، على الرغم من نزوح الأثرياء عنه.
عدت إلى الفندق عصرا لأستريح، وطلبت مفتاح غرفتي رقم 561، فبحث الرجل عنه ولم يجده، فلما أكدت له أني تركته عنده في الصباح أعطاني مفتاحا احتياطيا، وطلعت إلى غرفتي - أو على الأصح ما ظننتها غرفتي - رقم 561، ودخلت فوجدت الأثاث مختلفا في وضعه وترتيبه عن أثاث غرفتي كما تركتها، ثم لم أجد من أمتعتي شيئا، ففزعت وأسرعت إلى الخادمة أسألها عن أشيائي في غرفة 561؛ فقالت: إن 561 غرفة سافر صاحبها اليوم وهي خالية، فهرولت جازعا إلى المصعد، ونزلت إلى الإدارة، لكني فجأة رأيت أن أتأكد أن هذا هو رقم غرفتي، فوجدت بعد البحث أني أخطأت الرقم ، وأن غرفتي هي 1061، فأخذت المفتاح الصحيح وطلعت لأجد غرفتي وأشيائي سالمة كاملة ... فافرض - وهو فرض كان قريب الوقوع - أنني دخلت الغرفة 561 بالمفتاح الاحتياطي الذي أخذته، فوجدتها مسكونة بأصحابها، فمن يصدقني عندئذ أنني أخطأت رقم غرفتي؟ إن الحياة الواقعة فيها من المصادفات ما قد يظنه الواحد منا مستحيل الوقوع، ثم ترانا نأخذ في التحليل والتعليل، وكثيرا ما يكون الواقع أبسط جدا من الظنون.
خرجت قبيل الغروب قاصدا إلى ما يسمونه بالقمتين التوءمين، وهما جبلان متجاوران متشابهان، تغطيهما البيوت إلا عند القمتين اللتين تركتا خضراوين بما عليهما من شجر ... صعدت الجبل بالسيارة العامة في طريق يدور صاعدا حول السفح الصاعد، وعدت بالسيارة نفسها؛ فقد اكتفيت أن أنظر منها إلى سان فرانسسكو في ضوء الغروب العنبري اللون: منظر تنحبس له الأنفاس في الصدور؛ السفوح كلها مغطاة بالمنازل التي يغلب عليها اللون الأبيض؛ إن المنازل تموج مع موج الجبال ارتفاعا وانخفاضا ... ها هنا إلى جانبي - وأنا على مقربة من القمة العالية - منازل صغيرة جدا، وفي هذا المكان المرتفع، ومن هذا المنزل الصغير المنعزل خرجت سيدة تحمل طاقة من الزهر لفتها بقرطاس من الورق ... أقسم بالله أني عندئذ ما تمنيت في الدنيا إلا أن أسكن منزلا من هذه المنازل سكنى الإقامة الدائمة، مهما يكن عيشي بعد ذلك من الشظف؛ لقد قال الخيام: إن أعز ما في دنياه هو ظل شجرة منعزلة في الفلاة، ليس معه فيه إلا رغيف ودن خمر وامرأة، وأنا أعدل قليلا في أمنية الخيام: فأعز ما في الحياة عندي هو أن أعيش في بيت صغير كهذا، على هامش مدينة جميلة كهذه، ويكفيني بعد ذلك رغيف، ولست بحاجة إلى دن الخمر الذي اشتهاه الخيام، بل لست بحاجة إلى المرأة التي تمناها، إلا أن تكون امرأة أحبها، فما عادت كل امرأة تصلح للزمالة في مثل هذه الحياة البسيطة التي أرجوها لنفسي.
وقصدت بعد القمتين التوءمين إلى «برج كويت» على قمة تسمى «تل التلغراف» ... وقصة هذه القمة والبرج الذي يقوم عليها هي أنه في أول نشأة المدينة - أعني عند أول انضمامها إلى الولايات المتحدة - كان على هذا الجبل مكان لمراقبة السفن الداخلة في الخليج، وحدث ذات يوم أن أقبلت على المدينة قافلة من السفن تحمل نزلاء جددا، فأسرع المراقبون من فوق قمة الجبل إلى تبليغ أهل المدينة، فتنبه هؤلاء وصدوا الخطر الداهم، ومن ثم سمي المرتفع بتل التلغراف، ثم جاءت بعد ذلك سيدة ثرية اسمها «كويت» وأقامت هذا البرج العالي فوق هذه القمة، فسمي البرج باسمها ... وفي البرج مصعد كهربائي يصعد إلى قمته حيث يمكن للرائي أن يشرف على سان فرانسسكو بأسرها؛ لكني لما وصلت إلى مكان البرج كان الليل قد أقبل، فلم أصعد إلى قمته؛ لأن المصعد كان قد انتهت ساعات عمله، واكتفيت بوقفتي على قاعدة البرج حيث أطللت على سان فرانسسكو، فكانت بأضوائها بهجة أي بهجة، ورأيت من مرتفعي ذاك الجسرين العظيمين: كوبري أوكلاند يمتد على جانبيه عقدان طويلان من مصابيح؛ وفي الناحية الأخرى من المدينة رأيت كوبري البوابة الذهبية ... إن هذين الجسرين لمن الأعمال الهندسية التي تشهد بجبروت الإنسان في هذا الكون.
وعدت إلى الفندق مارا في طريقي بميدان بور تسموث، وله أهمية تاريخية وأهمية أدبية، فأما أهميته التاريخية فهي أنه أول مكان نصب فيه العلم الأمريكي عند استيلاء الولايات المتحدة على سان فرانسسكو سنة 1846م على يدي رجل يدعى مونتجومري؛ وأما أهميته الأدبية فهي أن روبرت لويس ستيفنسن - مؤلف جزيرة الكنز - كان كثيرا ما يقيم هناك؛ ولذلك أقاموا له تمثالا في الميدان (وبهذه المناسبة أذكر أن الصخرة التي تتوسط كوبري أوكلاند فيرتكز عليها جانبا الكوبري في توازن وتساند، تسمى جزيرة الكنز) ... وكذلك أوحت سان فرانسسكو إلى أديب أمريكي عظيم بكثير من أدبه، وأعني به «مارك توين».
Bog aan la aqoon