فلئن كانت المأساة اليونانية قائمة على استبداد «القدر» بمصاير الناس، يتحكم فيهم نحسا وسعدا؛ ولئن كانت مأساة شيكسبير قائمة على الشخصية وتكوينها ومصارعة الإنسان لنفسه؛ إذ تتحكم إرادة الإنسان في مصيره، وإذا فالصراع الحقيقي للبطل هو بينه وبين إرادته؛ فقد كانت المأساة عند «يوجين أونيل» قائمة على التحليل النفسي والتكوين الفسيولوجي؛ لأن مصير الإنسان مرهون بما في جسمه من غدد وإفراز، وما في نفسه من عقد ودوافع ... وهكذا ترى بطل المأساة في أدب القرن العشرين كله ضحية الظروف ... كانت المأساة اليونانية والمأساة عند شيكسبير تجعل البطل يعاني الآلام ليكفر للآلهة أو للقدر عما فعل، أما المأساة في أدب القرن العشرين - وخصوصا على أيدي «يوجين أونيل» - فتجعل البطل يعاني من تكوينه النفساني والجثماني؛ فهو هو الذي يعذب نفسه ويتعذب.
يستحيل أن يكون الأديب إلا ناقدا لعصره ساخطا على أوضاعه، وهكذا كان «يوجين أونيل» بالنسبة لعصرنا بصفة عامة، وللأمريكيين بصفة خاصة ... عنده أن عصرنا هذا مصاب بمرض أطلق عليه «مرض العصر»، وظواهره في الحياة الأمريكية - من وجهة نظر أونيل - هي أن الحب قد غاض في القلوب لتحل محله الرغبة في التملك، وحنين الإنسان إلى الفئة التي ينتمي إليها - أسرة كانت أو أصدقاء أو أمة - قد زال واندثر في عصر الآلات الذي نعيش فيه، وذبل الإيمان في القلوب ... أو إن شئت فقل كما يقول «أونيل» إن الإله القديم قد مات، ولم يعد في السماء إله يقوم مقامه ويملأ فراغه؛ فإن كان الأمريكيون اليوم يعبدون شيئا، فذاك وثن اسمه «النجاح»؛ النجاح في التجارة وفي الصناعة وفي جمع المال.
هذا رأي أديبهم العظيم «يوجين أونيل» الذي مات منذ أيام، ولا أراه مطابقا كل المطابقة لما أصادفه عند الناس من حب وتدين إلى جانب إيمانهم بالنجاح الذي أشار إليه «أونيل»، لكن «أونيل» هو بالبداهة أصدق مني نظرا وأصوب رأيا، خصوصا فيما يتعلق بقومه.
السبت في 5 ديسمبر
افتتاحية مجلة هاربرز لهذا الشهر هي كلمة ألقاها مدير جامعة هارفارد - وهي من أهم الجامعات الأمريكية - وهو «ناثان بوزي» عين مديرا لهارفارد هذا العام، فأراد أن يلقي كلمة يستهل بها إدارته لهذه الجامعة الكبرى، فماذا قال؟
وجد أن مديرا سابقا لهذه الجامعة - هو «إليت» - كان قد ألقى سنة 1909م كلمة بمناسبة توليه هذا المنصب، فجعل عنوان كلمته إذ ذاك «ديانة المستقبل»، قال فيها: إن المبدأ الذي يعتزم إدارة الجامعة على أساسه هو أن يجعل العقيدة الدينية عند الناس هي الخدمة الاجتماعية، والانصراف إلى البحث العلمي في شتى نواحيه؛ فالدين الذي أراده «إليت» هو أن يذهب عامل جريح إلى جراح يضمد له جرحه بشاشة معقمة، وأن تغير الدولة طريقة العيش التي يعيشها الفقراء في مساكنهم القذرة وملابسهم الممزقة ... إلخ؛ هذا عنده هو الدين الذي لا دين سواه.
فجاء المدير الحالي لجامعة هارفارد، وألقى كلمة يعارض بها كلمة «إليت» فجعل عنوانها «ديانة الوقت الراهن»، قال فيها إن المبدأ الذي ينوي أن يدير الجامعة على أساسه هو توكيد الدين في النفوس والعناية بالكنيسة؛ فهو يعتقد أن هذا جانب لا بد منه إلى جانب المعرفة العلمية، وأن ما ينقصنا الآن ليس هو في العلم بمقدار ما هو في الدين.
فإذا كانت هذه هي نغمة الحديث على لسان مدير جامعة هارفارد، أفلا يكون صوابا أن نقول إن الاتجاه الديني طابع الأمريكيين؟
الإثنين 7 ديسمبر
اليوم بداية ما يسمونه «أسبوع الاهتمام بالدين»، وهو أسبوع تخصصه الجامعة كل عام لنشر الدعاية للدين بكافة الوسائل، التي أهمها دعوة فئة من كبار المتكلمين في الشئون الدينية ليقضوا الأسبوع كله في الجامعة يحاضرون ويناقشون؛ وقد حضرت اليوم كلمتين من هذا النوع: الأولى في الصباح ألقاها عضو في الكونجرس دعوه هنا ليلقي هذه الكلمة، فتحدث عما يمكن أن تؤديه الديانة المسيحية في مجال الإخاء الإنساني ... كلام كله فارغ؛ وإني لأزداد إيمانا بأن العالم كله لا يزال من هذه الناحية في دور الهمجية والخرافة الفكرية.
Bog aan la aqoon