وذلك أن منهم فريقا يتربصون الحرب كل آن، ومقدار كبير من ثروتهم يصرف على قواهم الحربية.
وما مثل الأمم الرشيدة والضعيفة إلا كمثل رجل أمسك بذراعه الأيمن الذراع الأيمن لامرأة حتى لا تفر، وهي تلقمه لقيمات بيدها اليسرى.
ذلك مثل الأمم القوية القاهرة المعطلة لبعض قواها لقهر الأمم الضعيفة وإنهاك قواها، أفليس الناموس العام في هذا الوجود عذب الأمم القوية، بعذاب مهين، من أخذ القوة والحيطة والسلاح والكراع جزاء ما أماتوا من الأمم الضعيفة قواهم وملكاتهم.
أوليس الناموس العام تولى عقاب الأمم بنفسه، فلم يفلت منه ظالم ولا عات، أفلا تبحثون في تلك النواميس عما أعدته لرقي العالم، وتشمخون بأنفسكم، وتتعالون عن هذه الحقارة والصغار والتنزل إلى مرابض الحيوان، ومراتب الأنعام، ها أنتم هؤلاء استخرجتم قوى الحيوان وسخرتموها، فلم تغنكم وحدها، فعمدتم إلى بعض قواكم البشرية، فسلطتموها على الطبيعة، فحملتكم وكلمتكم، وخدمتكم فأرحتم الحيوان!
أما آن لكم أن تستخرجوا قواكم لتستعينوا بها على إكمال سعادتكم وتخلصوا إخوانكم من الشقاء، كما تخلص بعض الحيوان، وهاكم نواميس الطبيعة التي قدمناها واضحة ظاهرة، والقوى في الأدمغة موزعة على أعمال الحياة بالمشاهدة والاختبار!
أيها الفلاسفة، أيها الملوك، أيها النواب، الحقيقة واضحة، ظاهرة تلمس بالأيدي، ولكن الناس لا يبصرون؛ لأن حجاب الشهوات ران على قلوبهم، والقوى الغضبية غشت أبصارهم، فلم تنجل لها أنوار شمس العلم المشرقة المجللة سطح الكرة الأرضية، وكيف يجوز التغافل عن أراضي الأمم فلا تزرع؟ أم كيف تغادر العقول والقوى الكامنة فلا تستثمر؟ فلئن لم يصدع بهذا الأمر الملوك، ولم يفكر العلماء، فلتدهمن الأمم الدواهي الدهماء، وليصبحن في عذاب واصب، لا سيما إذا حامت حوائم الموت، من خلال الطيارات الطائرات في الجو، وحلقت على عوالم الشرق والغرب حائمات القباب الطيارة ترسل على الأمم الصواعق والشهب والرصاص، وتزجي عليهم المصائب، وتمطرهم مطر الدمار والخراب، وأول ما يصمي به الأمراء والملوك، ولئن فطنوا لما أوضحناه اليوم، فليكونن ذلك أشبه بعذر في القريب العاجل لهم، كما أنهم إن نجحوا في طلبتهم وهو الأقرب عندي كان لهم إطراء المادحين، وشكر الأمم أجمعين، وبالجملة فلهم الغنم، وعليهم الغرم.
أيها الحكماء والفلاسفة والملوك، مجموع النوع الإنساني حائد عن التهذيب، حيوان مكبر، ولن يصوره المصورون بأكثر من نسر بأجنحة كثيرة وأرجل تحتها عجلات ذي صوت يحيط بالكرة، له أظافر حادة، إذا تصور وجود مثل هذا الطائر لم نسمه إنسانا، وإنما هو حيوان ذو خصائص واسعة، ذلك مثل الإنسان.
أوليس من العار هذه الخلة في المجتمع الإنساني! أين التهذيب في الأمم؟ الأمم الرشيدة بحكم هذا النظام الحيواني مضطرة أن تنيب عنها طائفة من أبنائها في الأمم الضعيفة، فلا تطأ أقدامهم تلك الأرض حتى يتنزلوا من سماء مدنيتهم، وينحطوا عن الفضيلة، ويعثوا في الأرض فسادا، كالحيوان الأعجم، ثم يتدربون على تلك الأخلاق الفاسدة، فتصير ملكات، فيرجعون إلى أوطانهم حاملين أوزارهم على ظهورهم، فتكون بذور حناظل الرذائل، تنمو وتترعرع في خلال الفضائل والمدنية، وتتسلق على أشجار السعادات الباسقات، وتمتص غذاءها فتموت، وتتغلب أعشاب الرذائل على زروع الفضائل، وتنحط تلك الدولة إلى أسفل سافلين، كما اتفق للرومانيين فذلك فساد الحاكمين، وهلاك المستعبدين.
النوع الإنساني اليوم كغلام مراهق جاوز سن الصبا، وهو الآن يستعد لاستكمال العقل، فتراه كلما غدا أو راح يلطم بالصخر والجبل والشجر فيشج رأسه ويكسر رجله.
أفلا يكون ناموس الوجود الذي رمزنا له في صدر هذا المقال شعاعا من نور عقله وعنوانا على مبدأ سعادته فيبلغ به الحلم، ويصير رجلا بعد جهله المبين، وإنسانا بعد أن كان حيوانا، ألا ترى عذاب الأمم القاهرة والمقهورة جميعا بالجهل والطيش، كغلام يصيح مع الصائحين، فالأولون معذبون باستعبادهم، والآخرون بحبس فطرهم وجهلهم، والغنم بالغرم، وعذاب الأمم الراشدة بمقدار إذلالها لغيرها كما قدمنا.
Bog aan la aqoon