Awraqaygee … Noloshayda (Qeybta Koowaad)
أوراقي … حياتي (الجزء الأول)
Noocyada
هذه العبارة تقولها مس إيفون لأمي حين تزورنا في البيت، قلبي يخفق حين أسمعها تنطق «نوال»، يصبح اسمي غير الأسماء، أسمعه لأول مرة، كلمة «موهوبة» ترفعني فوق السحب.
مس هيمر تزورنا في البيت أحيانا ومعها مس إيفون، أو تأتي مس إيفون وحدها، تفتح أمي الصالون، الغرفة المقدسة في البيت، مغلقة طول العام، النوافذ والأبواب، لا تفتح إلا للضيوف الغرباء، مقاعدها من الخشب الزان، مكسوة بالحرير الأحمر له ملمس القطيفة، مساندها ذهبية، يسمونها «الطقم المدهب»، الكرسي فيها يحمل لقب «الفوتيه»، له غطاء أبيض يحميه من الهواء والضوء. فوق الأرض سجادة عجمية كبيرة زاهية الألوان، دخلت بها أمي مع جهاز العروس ليلة زفافها.
لم يكن مسموحا لنا نحن الأطفال أن ندخل إلى الضيوف الغرباء، وتسأل مس إيفون: فين نوال؟ أسمع صوت أمي يناديني: يا نوال، تعالي سلمي على مس إيفون، أكون واقفة وراء الباب أنتظر هذه اللحظة، أرهف السمع لما يدور، أندفع إلى الصالون مثل الصاروخ.
في الصالون لم تكن أمي هي المرأة التي أراها في المطبخ، ترتدي مع ثوبها الحريري وجها آخر وجسدا آخر، ينسدل شعرها الذهبي الطويل فوق كتفيها العاريتين البيضاوين، عنقها يبدو أطول مما كان، يشع ضوءا ناعما كالرخام، يحوطه العقد «الألماظ» الماسي، تنعكس على فصوصه الأضواء، في أذنيها يتدلى الحلق الألماظ، يهتز مع رأسها، تشع فصوصه كالنجوم ، فستانها الحريري الأصفر، له حمالتان رفيعتان فوق الكتفين، يكشف عن الجزء الأعلى من صدرها حتى بداية الشق بين النهدين، يتربع «البروش» فوق صدر الفستان أعلى النهد الأيسر مثل قرص الشمس، حول معصمها الأيسر ساعة حريمي صغيرة لا يمكن رؤية أرقامها الدقيقة، محلاة بفصوص من الألماظ، حول إصبعها الخنصر خاتم الزواج الذهب، محفور عليه اسم زوجها «السيد السعداوي»، حول معصمها الأيمن الإسورة ذات الفصوص المشعة، وهي الشبكة التي قدمها أبي لأبيها يوم الخطبة.
في الصالون أمي تبدو مثل الملكة أو واحدة من الأميرات، صوتها يرن متألقا صافيا كالماء العذب، ضحكتها لها رنين الفضة، تلقي رأسها إلى الوراء مع شعرها، تضحك كاشفة عن أسنانها البيضاء، يدها صغيرة بضة تتحرك برقة في الهواء وهي تتكلم، أو تسكن في حجرها وهي صامتة، تتشابك أصابعها مع اليد الثانية، ينامان فوق فخذيها مثل توءم يمامتين.
إلى جوارها تبدو مس إيفون، تنطق أمي كلمة «إن شاء الله» بهذا الصوت، فأدرك أن الله لن يشاء أبدا، وأن البيانو لن يدخل بيتنا في حياتي.
أبي يدخل إلى الصالون ليسلم على مس إيفون، في كل مرة تسأله عن البيانو، في إحدى المرات قال لها أبي: بيانو إيه يا مس إيفون، الغلاء بيزيد يوم ورا يوم، وماهية الحكومة بتنقص!
انكمشت داخل جسدي من شدة الخزي، أصبح أبي في نظري رجلا فقيرا، داخل جلباب البيت أو البيجاما من الزفير المقلم، قدماه الكبيرتان السمراوان داخل شبشب قديم يشبه شبشب ستي الحاجة، أطرق برأسي إلى الأرض، أخفي كعب حذائي المتآكل تحت المقعد، السجادة العجمية تبدو كالحة الألوان منحولة الوبر يعلوها ثقب صغير أخفيه بقدمي.
كنت في التاسعة من العمر، أحلم كل ليلة بالبيانو، مئات الليالي، آلاف الليالي، أحلم أن البيانو هبط من السماء ودخل إلى غرفتي من النافذة، ستة وعشرون عاما أحلم بهذا البيانو حتى بلغت ابنتي «منى » العاشرة من عمرها، اشتريت لها بيانو من أحد المزادات في القاهرة، ثمنه خمسة وستون جنيها، ادخرتها من راتبي منذ تخرجت في كلية الطب، أحد عشر عاما أدخرها الشهر وراء الشهر. كنت أسكن وابنتي في شقتي في الدور الخامس «في الجيزة»، فتحت عيني في الصباح ورأيت البيانو يدخل من النافذة مربوطا بالحبال، بدت اللحظات خيال من طول ما رأيت هذا المشهد في النوم، الليلة، ستة وعشرون عاما، بدت الحقيقة هي الحلم. •••
لبيتنا في منوف غرفة واسعة تحت الأرض يسمونها «البدروم»، تخزن فيها أمي بعض الأشياء القديمة، أخي «طلعت» جعل منها عشا للحمام الزاجل، ومسكنا لكلبه الكبير «فاتي» من نوع الوولف، يشبه الذئب، تفزع منه البنات المتجمعات حول طرمبة المياه يملآن الجرار. يبتسم أخي ويمد عنقه مثل الديك الرومي. يربت على رأس الكلب كأنما هو البطل مروض الأسود. ترمقه البنات بطرف عين، تمتلئ عيونهن بالإعجاب، يتلكأن في ملء الجرار، يتضاحكن، يتغامزن، يطلقن القفشات والنكات، تطل عليهن من النافذة «أم محمد» (زوجة الحاج محمود)، فيسود الصمت، تختفي الواحدة وراء الأخرى. «بنات آخر زمن، مايستحوش!»
Bog aan la aqoon