268

Awraqaygee … Noloshayda (Qeybta Koowaad)

أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

Noocyada

تلك الليلة أول الربيع كان الكون هادئا وأنا وحدي في البيت بلا أسرة ولا صوت يسري من عند الجيران، إلا شيء خافت يشبه حفيف الشجر من بعيد، ربما هو صوت أمإلا شيء خافت يشبه حفيف الشجركلثوم تغني في راديو الجيران بمناسبة عيد الربيع، أو صوت جمال عبد الناصر يخطب في عيد العمال. حروف الكلمات لم تعد مسموعة والصوت لم يعد صوتا، بل صار شيئا مسحوقا يتسلل من وراء الجدار الحجري كالرماد الناعم، كحفيف أوراق الأشجار في الأفق البعيد، إلا كلمة واحدة ظلت متماسكة الحروف، تقاوم الانسحاق داخل الجدار، تحملها نسمة الليل إلى أذني وأنا راقدة فوق الكنبة في الشرفة، ترن في الجو بصوت أنثوي يشبه صوت سامية عضو اللجنة القيادية في الاتحاد الاشتراكي، تقف فوق المنصة وراء الميكرفون وتنطق بصوت جمال عبد الناصر كلمة الاشتراكية ! الاشتراكية أيها الإخوة والأخوات.

لم تكن سامية أقرب الزميلات إلي في عنبر الداخلية، كانت تكبرني بعامين اثنين، بدت في ذلك الوقت كأنما تكبرني بقرن أو قرنين، تعرف قواميس لغات لا نعرفها، تفك طلاسم كلمات غامضة على عقولنا نحن التلميذات الصغيرات، ومنها كلمة الشيوعية والمادية الدياليكتيكية، وعلى رأسها اسم «ماركس»، وهو اسم يختلط في أذاننا مع اسم «مركس» بصوت زميلتنا «بطة»، حين كانت تقلب حرف القاف الخشن إلى حرف الكاف الرقيق، تشبها بالطبقة الراقية والأجانب، ويصعد الدم إلى وجه صفية حين ترن في الجو كلمة «مركس» أو «مرقس»، فهو الاسم الذي تعلقه داخل القلب الذهبي فوق صدرها، يحتقن خداها البيضاوان بلون الدم، ترمقني بعين حمراء كأنما أنا أفشيت السر، وكانت هي تحكي قصة حبها للزميلات في عنبر الداخلية، أو لأي زميلة تسهر معها بعد أن يدق جرس النوم، تقفان معا في النافذة تطلان على القمر والنجوم في غياب أبلة عزيزة ضابطة الداخلية.

لم تكن «بطة» معنا في حلوان الثانوية، أصبحت زميلة لنا في كلية الطب، كان الحديث بين الزميلات موصولا على الدوام، لا يفصل المدرسة عن الجامعة أو الطفولة عن المراهقة عن الشباب، لا يقطعه زواج أو طلاق أو موت الزوج أو أي حادث آخر يعترض حياة البنات والنساء، كأنما عطش الحب لا يرتوي أبدا حتى تبلغ المرأة مائة عام.

كنت منذ الطفولة أخفي عن أبي وأمي كثيرا من المحرمات التي تتردد في عقولنا نحن الأطفال، أغلبها يتعلق بالحب أو الموت، ومنها فكرة أن الموت نهاية الألم، أي أن الجسد الميت لا يحس شيئا إن وضع في النار. كانت هذه الفكرة واضحة لعقلي منذ الطفولة الأولى قبل أن أبلغ السابعة من العمر، لكنها بدأت تختفي كلما كبرت ودخلت المدرسة. كانت صفية أقرب الزميلات إلي في عنبر الداخلية، تكبرني بعام واحد، وتبدو كأنما هي امرأة ناضجة، ثدياها ممتلئان باللحم مثل أمي، كأنما تزوجت وأنجبت، أو خاضت تجارب في عالم الحب لا نعرفها، حول عنقها سلسلة ذهبية يتدلى منها قلب مصنوع من الذهب ، تفتحه بأطراف أصابعها الناعمة البضة كأصابع أمي، تلثمه بشفتيها، وصدرها يعلو ويهبط من أنفاسها، تلتقط خصلة شعر رفيعة ملفوفة داخل تجويف القلب، تقربها من أنفها وتشمها، تأخذ شهيقا عميقا مع تنهيدة طويلة، ثم تفتح جفونها ورموشها، ترتعش وتقول بصوت يتقطع مع أنفاسها: «باحبه يا نوال باموت فيه!» ... تكرر هذه العبارة الليلة وراء الليلة، كلما وقفت معها في النافذة بعد أن يدق جرس النوم، حين يغلبني النعاس أتركها وحدها واقفة في النافذة تناجي القمر، وفي الحلم أراها ممدودة فوق السيخ المحمي في النار، يحرقها الله المرة وراء المرة، إن إثمها ليس واحدا بل اثنين، الإثم الأول هو الحب، كان الحب محرما على البنات إلا في الأغاني والأفلام، الإثم الثاني هو «مرقس» حبيبها القبطي وهي مسلمة، كنت أهمس في أذنها «الحب ده حرام ربنا حيحرقك في النار يا صفية»، تهز كتفيها، تمط شفتيها إلى الأمام وتهمس: «بعد ما أموت يا نوال مش حاحس بحاجة»، يسري صوتها في هدوء الليل كحفيف الأشجار تتراءى من بعيد في الظلمة كالأشباح أو أرواح الجان، يتسلل الحفيف إلى أذني في الليل مخيفا مثل فحيح الشيطان، يرتعد جسدي وأنا واقفة في النافذة إلى جوارها، تسري القشعريرة من قمة رأسي إلى بطن القدمين، أحس البرودة تصعد من بلاط العنبر إلى منابت الشعر تحت الجلد، والشعيرات الدموية تنتصب فوق ذراعي العاريتين كرءوس الإبر، أقرب شفتي المرتعشتين من أذنها وأهمس: «يعني مش حانحس بالنار بعد ما نموت يا صفية؟» وتفلت من بين شفتيها ضحكة مكتومة وهي تخفي فمها بيدها الناعمة البضة «نار الحب يا نوال بس نحس بيها.» أتركها وحدها واقفة في النافذة وأختفي تحت الغطاء، كل شيء في كياني يرتج، والسرير من تحتي يرتج في صرير مسموع يكاد يوقظ بنات العنبر، وأنتفض تحت الأغطية كالفرخة المذبوحة، إلا خلية واحدة في رأسي تظل هادئة وقورة لا ترتج ولا تهتز، كأنما هي تعرف الحقيقة منذ ولدت، أو كأنما هي الخلية الوحيدة في عقلي التي عاشت منذ الطفولة.

لم تنقطع صداقتي بصفية حتى اليوم، أصبحت زوجة الداعية الإسلامي الكبير الدكتور مصطفى الزهيري، تلف رأسها بحجاب أنيق يتمشى مع الأصالة ولا يتعارض مع الحداثة، يسمونه «البونيه»، كلمة فرنسية تنطقها بصوت قوي يشبه صوت زوجها، تضغط على أسنانها وهي تقول «البونيه» بلهجة رجولية تتناقض مع وجهها السمين البض الذي يفيض أنوثة، وشفتاها الممتلئتان الناعمتان ضغطت عليهما بإصبع الروج الأحمر قبل أن تخرج من البيت، وبعد أن ارتدت البونيه وأحكمته حول رأسها، لا يظهر من شعرها الأسود المصبوغ إلا خصلة نافرة رفيعة تتدلى فوق جبهتها العريضة من الأمام، أو فوق عنقها القصير السمين من الخلف.

في النوم يتكرر الحلم القديم رغم مرور السنين، وأراها تشوى في النار كخروف العيد، دون أن تشعر بالألم، تنطلق ضحكتها في سكون الليل، وصوتها يسري في أذني كالسيخ الحامي «نار الحب يا نوال بس نحس بيها»، كنت أحكي لها الحلم وهي واقفة إلى جواري في النافذة، عيناها تشتعلان بالضوء كأنما بنار خفية، تسري حرارتها إلى رأسي وعنقي وأنا واقفة إلى جوارها، دون أن تلامسني أو ألامسها، كأنما هي شعلة مختبئة في الأعماق، لا أعرف من أين تتدفق هذه السخونة وتسري من قمة رأسي إلى أسفل الكعبين، يصبح البلاط ساخنا تحت قدمي الحافيتين، والبنات غارقات في النوم داخل العنبر، وأبلة عزيزة ضابطة الداخلية غائبة في إجازة، ولا أحد يطل علينا من السماء إلا القمر المكتمل بدرا، يتألق نوره فوق رمال الصحراء الممدودة تحت عيوننا حتى الأفق، بحر من الفضة السائلة تشع موجاته ومضات من الضوء الأبيض تبدو في الظلمة كفصوص اللؤلؤ.

هذه الصورة محفورة في عقلي رغم مرور خمسة وأربعين عاما، وقصيدة من الشعر كتبتها في مفكرتي السرية قرب الفجر، بعد أن سهرت الليل واقفة عند النافذة مع صديقتي صفية، هي تحكي عن نار الحب وتحلم بالزواج من مرقس بعد أن يعتنق الإسلام، وأنا أحلم بأن أكون كاتبة أو شاعرة أو ممثلة فوق المسرح أو راقصة أو أي شيء آخر إلا الزواج.

كان الشفق الأحمر بلون الدماء يسبق ضوء الفجر إلى السماء ، وكنت أشعر كأنما تورمت قدماي من طول الوقوف، ثماني ساعات أو تسع منذ دق جرس النوم ونحن واقفتان نطل على القمر والنجوم ... تركتني صفية قبل الفجر بقليل ونامت، كان النوم قد هجرني كأنما إلى الأبد، ولن يعرف جسدي التعب أو الألم، كأنما ينبوع ينفجر في أعماقي بأشياء لا أعرفها، أمسكت القلم وأنا واقفة، الورقة البيضاء فوق حافة النافذة، وبدأت أكتب، كان القلم يمشي وحده كأنما بقوة خارج جسدي وعقلي، خارج الزمان والمكان، كلمات من الشعر أو النثر تكتب نفسها بنفسها.

قرأت على صفية في الليلة التالية، وفي الليلة التي بعدها، والتي بعدها ... تلمع الدموع في عينيها وأنا أقرأها، أتوقف لحظة لأبتلع دموعي، أطوي الورقة وأخفيها تحت مرتبة السرير، تشدها من تحت المرتبة وتقرأها. في ليلة وهي تعيد قراءتها بدت الكلمات قديمة كأنما راحت شحنتها الأولى المتوهجة، أمسكت الورقة ومزقتها، وفي يوم كنت وحدي بالعنبر، خرجت كل البنات في رحلة إلى الحديقة اليابانية، فتحت مفكرتي السرية وأعدت كتابة القصيدة، بقيت في ذاكرتي حتى اليوم، أعطيتها عنوان: «لن أموت»، أردد بعض أبياتها أحيانا حين يفيض بي الشجن أو الحنين، لا أعرف من أين ينبعث الشجن ولمن يكون الحنين، ربما هو الحب الغائب الحاضر، الطيف الذي لا يتجسد أبدا في الواقع والحقيقة، ربما هو الوهم أو الحزن أو الخوف من الموت، أقول لنفسي حين تتأزم الأمور وأوشك على الهلاك: «لن أموت، سأتحدى القضاء والقدر، ولا لن أموت.»

في خريف عام 1981 حين كان التشاؤم يسود المسجونات معي في الزنزانة، ويحوم شبح الموت حول رءوسنا، إذا بالقصيدة تهب منتصبة داخلي كالمارد، تقاوم اليأس، تتحدى الموت، وأسمع صوتي الغاضب يقول: لن نموت، وإن متنا فلن نموت ساكتات ... لن نمضي في الظلمة دون ضجة، لا بد أن نغضب ونغضب، نضرب الأرض ونرج السماء ... لن نموت دون أن نكسر قضبان الحديد، وإن متنا فلن نموت صامتات.

Bog aan la aqoon