Awraqaygee … Noloshayda (Qeybta Koowaad)
أوراقي … حياتي (الجزء الأول)
Noocyada
إن السلطة في مصر تملك كل مؤسسات الثقافة والنشر والإعلام والترجمة، ويمكنها أيضا مصادرة أعمالك، وتشويه سمعتك، لكنها لا تملك مصادرة أعمالك المترجمة في الخارج. شاءت الصدف يا نوال أن تتزوجي شريف حتاتة، وأن يقوم شريف بترجمة رواياتك! أتعرفين يا نوال آخر إشاعة عنك؟ يقولون: إنك تزوجتيني لأترجم أعمالك! كان شريف يضحك ، يحاول أن يخفف عني وطأة الألم.
كنت في بداية يناير 1992، نتأهب للرحيل إلى المنفى، أصبح الخطر يحوطنا من كل جانب، يتحدث الناس كل يوم عن قوائم الموتى، الأسماء التي تم إهدار دمها، جرائم تحدث دون أن يقبض على القتلة، الهمس يدور بين الناس، لا يعرفون الوهم من الحقيقة، ولا الإشاعات من الحقائق. كانت الحراسة المسلحة أمام بيتنا، والبودي جارد يتبعني حيثما أذهب، لا أعرف من أين تنطلق الرصاصة. في النوم أرى دمي مهدرا فوق أسفلت الشارع، تزحف قشعريرة باردة إلى جسدي من الرأس إلى بطن القدمين، والصوت يزعق: اقتلوها الكافرة عدوة الله والإسلام.
الصورة الممزقة
كنت غارقة في النوم، رأيت أبي جالسا في الصالة يقرأ، رفع عينيه إلي واندهش قليلا. نوال؟! متى جئت؟ كيف كان الحفل؟ تساءلت في دهشة: أي حفل؟ قال: حفل نقابة الأطباء. عادت ذاكرتي في الحلم أربعين عاما إلى الوراء، قلت لنفسي: هل يذكر هذه الليلة؟! إنها الليلة التي مات فيها، الخميس 19 فبراير 1959، أراه جالسا في الصالة يحدثني وأعرف أنه ميت. انتهى القرن العشرون أصبحنا في القرن الواحد والعشرين والألفية الثالثة، الرقم 2000 إلى جوار تاريخ اليوم يبدو غريبا، ياه، سنة 2000؟! لم أكن أعرف أنني سأعيش حتى القرن الواحد والعشرين، كأنما أختلس من الزمن قرنا جديدا وأعود طفلة في السابعة من العمر أتذكر طفولتي. تبدو أقرب مما كانت، وكانت تبدو بعيدة في الماضي، كان الأمس يبدو كأنه العام الماضي أو القرن الماضي، ثم تغير الزمن مع التقدم في العمر، أصبح القرن الماضي كأنه الأمس، أرى وجه أبي الميت قريبا، أكاد ألمسه بأطراف أصابعي رغم مرور نصف قرن، أكاد أسمع وقع قدميه على البلاط في الصالة، في المرآة يطالعني وجهه كأنما لم يغب أبدا. يقول لي شريف: إن الحزن على فراق أبي لم يفارقني. ربما هو يعرف حقيقتي أكثر مني، ربما كان حبي لأبي أكبر حب في حياتي، لا يفوقه إلا حبي لأمي، قلبي ينوء بحبها بعد أن فرقنا الموت، أيكون الفراق هو شرط الحب؟!
أفقت من النوم على جرس التلفون، صوت سامية يقول: أنت نائمة والمظاهرات مشتعلة في جامعة الأزهر، وقد أذاعوا اسمك ضمن من أهدروا دماءهم من الأدباء، صوتها يأتيني كأنما في الحلم، ألم يهدروا دمي من قبل؟! ماذا تقولين يا لطيفة؟! أنا لست لطيفة يا نوال، أنا سامية، لطيفة ماتت من ثلاث سنين.
أفقت من النوم، النتيجة فوق الحائط مكتوب عليها التاريخ بخط واضح، 9 مايو عام 2000، سماعة التليفون لا تزال في يدي، صوت سامية يسري إلى أذني، وهي تقول: الشيخ في الجامع اللي جنب بيتنا عمل خطبة في الجمعة عليكي يا نوال، قال: إن كتبك كلها كفر في كفر، والجماعات الإسلامية حركوا الطلبة في الأزهر عشان يعملوا مظاهرات ضد رواية نشرتها وزارة الثقافة، بيقولوا فيها كلام ضد القرآن، والطلبة في الأزهر هتفوا ضد وزير الثقافة وضد السيد الرئيس، يعني المسألة مش رواية، المسألة النظام كله، والطلبة غلابة مش عارفين حاجة، بيروحوا في الرجلين! وأنت يا نوال يمكن يعملوك كبش فداء. الشيخ في الجامع كان بيحرض الناس ضدك، لكن تعرفي إيه اللي حصل؟ أخويا كان في الجامع بيصلي معاهم، قال لي: الناس خرجوا من الجامع بعد الصلاة وراحوا المكتبات يشتروا كتبك! قلت بصوت أبي الميت: رب ضارة نافعة يا سامية. تنهدت بصوت حزين وقالت: يمكن اشتروها عشان يحرقوها مش عشان يقروها. - يحرقوها يحرقوها، يا سامية! - خسارة الكتب تنحرق يا نوال. - الحريق يأكل الورق وليس الكتب يا سامية! - الكتب مصنوعة من الورق ولا إيه؟ - أيوه في القرن الماضي، لكن إحنا في القرن الواحد والعشرين، يا سامية، والكتب أصبحت غير قابلة للحرق، تعبر القارات عبر الأثير دون الحاجة إلى ورق أو مطبعة. - ممكن يحرقوا الكمبيوتر. - الكتب ليست في الكمبيوتر. - أمال فين يا نوال؟ - في اللوح المحفوظ من مادة غير قابلة للحرق. - واللوح المحفوظ ده فين؟ - في السماء يا سامية. - عند ربنا؟! (ضحكة قصيرة مكتومة تنم عن عدم الإيمان في الطفولة، والإيمان في الكهولة). - لأ يا سامية. - أمال فين يعني؟ - اللوح المحفوظ ده اسمه «الديسك» من مادة صلبة قوية، وفيه ملايين النسخ، بلايين النسخ، تنتشر في الكون زي الفيروسات في الجو وتتكاثر عبر الإنترنت والويب، والقوى الإلكترونية المعروفة والمجهولة. - وإيه القوة المجهولة؟ - فيه حاجة جديدة اسمها الكوارك أصغر من الإلكترون ويحمل طاقة أكبر، فيه قوى مجهولة داخل الذرة، وداخل خلية المخ، لا زال المخ مجهولا يا سامية، مخ الإنسان، والخلية الحية والجينوم والذرة والكواكب والشمس والقمر والنجوم، لكن أهم حاجة إن الكتب لم تعد قابلة للحرق! •••
كانت جدتي آمنة والدة أمي ترمقني بغضب وأنا في السابعة من عمري، تقول عني إنني لا أطيع مثل البنات في عائلة شكري بيه. كلما كانت جدتي تقول شيئا غير مقنع أسألها ليه؟ تلسعني بالعصا الخيزران وتصرخ: مش عاوزة أسمع منك كلمة ليه دي أبدا يا بنت ... فاهمة؟!
لم أكن أبكي كما تبكي البنات، أدق الأرض بقدمي بغضب، وأقول ليه تضربيني؟! يشتد غضب جدتي حين تراني أدق الأرض بقدمي، وحين تسمعني أردد كلمة ليه، أكثر ما يغضبها أنها لا ترى في عيني أي دموع ، إنها جدتي زوجة شكري بيه مدير القرعة العسكرية عاشت مقهورة وماتت مقهورة حبيسة البيت كالقصر وقبر من الرخام، لم يكن لها أن تنفس عن غضبها المكتوم إلا بلسع الأطفال بالعصا الخيزران، لم أعرف في طفولتي ماذا كان يغضبها، حتى همست أمي في أذني بالثالوث المقدس، الرب والأب والزوج، كنت أراها ترمق السماء بغضب وتقول: يا رب! لم تكن تنطق الكلمة الثانية ولا الثالثة، وسألت أمي: ليه مش بتنطق جدي، وضعت أمي يدها على فمي وقالت: اسكتي.
في الليل أصحو مختنقة بالدموع الحبيسة، تتجمع في حلقي كالغصة، أسمع شخير جدتي وهي غارقة في النوم، ملامحها تبدو مستسلمة بلا حول ولا قوة. في النهار تبدو قوية قاسية أتمنى موتها، في النوم تبدو ضعيفة مستسلمة، أكره قوتها بمثل ما أكره ضعفها، أود ألا تصحو وتموت وهي نائمة. أعود إلى النوم وأحلم أن جدي هو الذي مات، أكره جدي أكثر من جدتي، أدعو الله أن يأخذه، أراه في الحلم نائما يشخر، أود أن أطبق أصابعي حول عنقه. أنتفض من نومي مذعورة، أنهض من السرير وأمشي على أطراف أصابعي، أجلس في الفرندة الواسعة، أتذكر أن جدي مات منذ سنوات، الذي ترقد إلى جواري في السرير هي خالتي فهيمة، وهي التي أسمعها تشخر في الليل، وهي التي أريد أن أطبق على عنقها بأصابعي.
في ضوء مصباح الشارع كتبت في مفكرتي السرية: حين تراودني فكرة القتل أمسك القلم وأكتب، أرى كلماتي فوق السطور تنتفض، لولا الكتابة لأمسكت الساطور وقتلتها أو قتلت نفسي.
Bog aan la aqoon