Awraqaygee … Noloshayda (Qeybta Koowaad)
أوراقي … حياتي (الجزء الأول)
Noocyada
على مدى سنين العمر كنت أكتب لأجتاز هذه المسافة بين الأصل والصورة، دون جدوى، ولا يمكن للحروف فوق الورق أن تكون هي الجسد. •••
في غابة «ديوك» في الصباح الباكر أمشي سبعة من الكيلومترات، كل يوم أمشي هذه المسافة بالخطوة السريعة ، كما كنت أمشيها حول النيل في الجيزة، أشجار الغابة طويلة من نوع الصنوبر والأرز والبلوط، السماء رمادية بلا شمس ولا مطر، والهواء ساكن، وحدي أمشي بين ظلال الشجر، لا حركة ولا صوت إلا وقع قدمي فوق الأرض، القدم وراء القدم، دب، لب، دب، لب، الدقات تتعاقب في أذني تذكرني بالدقات فوق الباب. تلك الليلة من شهر يونيو عام 1992م، بعد منتصف الليل، كنت نائمة في سريري، والساعة تقترب من الثانية صباحا، الهواء شبه معدوم، صيف القاهرة كان حارا رطبا، والدقات المتعاقبة في أذني كأنما هو حلم أو كابوس.
رأيتهم واقفين وراء الباب، مسلحين ومؤدبين، مرت إحدى عشر سنة، منذ سبتمبر 1981م، حين جاءوا ودقوا الباب، ثم كسروا بأعقاب بنادقهم ودخلوا، لكنهم هذه المرة دقوا الجرس، كنت غارقة في النوم ولم أسمع صوت الجرس، حينما لم أفتح دقوا الباب.
وجوههم تتراءى لي من وراء الضباب، من وراء البحار والمحيط، من وراء الزمن الساقط في العدم، من وراء العقل إذا كان العقل جريمة.
منذ بدأت أكتب وأنا أدرك الإثم، إثم التفكير أو الإحساس أو مجرد التفكير، لكن الكتابة عندي كانت ضرورية مثل التنفس، أحاول عن طريق الكلمات أن أستعيد وجه أمي، ملامحها تضيع من ذاكرتي كأنما لم يكن لي أم، وأحيانا تتجسد أمامي قبل أن أتعلم النطق.
كنت أبكي لترفعني أمي من الفراش وتجلسني، كنت أراها أكثر وضوحا وأنا جالسة، تحوطني بالوسائد حتى لا أسقط من فوق الكنبة، تمسك رأسي وتضع من ورائي وسادة طرية، ملمس يدها كان ناعما، تفوح منها رائحة أمي، رائحة خاصة بها وحدها، تتجسد أمامي على شكل دوائر من الألوان، تتداخل الألوان وتختلط مع حاسة اللمس والشم، ألمس الألوان بيدي، أشمها بأنفي، أتذوقها بلساني، أمصها بفمي من ثدي أمي، أتطلع إلى وجهها.
كان وجهها مستديرا ناعما أبيض بلون الثدي، عيناها واسعتان مملوءتان بالضوء، دائرتان كبيرتان من اللون الأبيض، داخلهما دائرتان من اللون العسلي تشعان الدفء، ناعمتان تلامسان وجهي مثل اللبن الدافئ يسري من الثدي إلى جسدي يملؤني بالنوم، فأغمض عيني ، أطفو فوق مساحات من الضوء الأبيض، أسبح في البحر، لا أرسو على الأرض، أفتح عيني وأصحو فوق صدر أمي كالشاطئ، الشاطئ الوحيد في هذا البحر الواسع، صدر أمي الناعم أحس داخله النبض، النبض في صدرها يدق مع النبض في صدري، هي وأنا قلب واحد داخل الجسم.
فوق الشاطئ تعلمني أمي المشي، أنظر إلى الأرض، أتحسس موقع قدمي، أرفع رأسي فوق عنقي، لم يعد رأسي أثقل من جسمي، عيناي تريان البحر بلون أزرق، الزرقة غارقة في ضوء الشمس، أملأ صدري بالهواء، له رائحة أمي والشمس والعشب وملوحة البحر.
صدر أمي ناعم مثل رمال الشاطئ، أنفاسها تعلو وتهبط مع أنفاسي، تروح وتجيء بين صدرها وصدري، يتخللها الهواء ورائحة البحر، وأنا راقدة فوق الرمل داخل «المايوه» له حمالتان فوق الكتفين، لونه كان أخضر فيه خطوط بيضاء وزرقاء وحمراء، في الصورة الفوتوغرافية تحولت الألوان جميعها إلى لونين اثنين الأسود والأبيض.
لم يبق من هذه الفترة من عمري إلا صورة فوتوغرافية، التقطها مصور عابر في لحظة عابرة من تسعة وخمسين عاما، أحتفظ بهذه الصورة القديمة داخل مظروف في درج مكتبي، ورقة صغيرة انطفأت لمعتها، بهت الحبر فوق الورقة، لكن الحروف بخط يد أمي لا تزال مقروءة، ماتت أمي منذ ست وثلاثين عاما، لكن حروفها أمام عيني موجودة فوق الصورة، بلاج الشاطئ بالإسكندرية، 18 يونيو 1935م.
Bog aan la aqoon