197

Awraqaygee … Noloshayda (Qeybta Koowaad)

أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

Noocyada

الفلوس في جيبي تدفئني، سأشتري بها روب صوف لأبي، أراه ينتفض داخل البيجاما الخفيفة، كان يشتري لنا الملابس الشتوية ويظل هو بالبدلة الصيفية.

كان جالسا في الصالة، الشعر الأبيض يكسبه جلالا على نحو خاص، أو ربما شيء آخر في عينيه يشع منه الجلال، أو شيء في أعماق روحه، كان له حضور إذا حضر، وغياب إذا غاب، له هيبة غامضة خالية من السلطة، هيئة النبلاء دون أن ينحدر من طبقة النبلاء، عيناه قادرتان على اختراق أعماق الآخرين لو أنه ثبتهما في عيونهم، نادرا ما كان يفعل ذلك، لم يكن يستخدم قوته مع الأقل منه قوة، صدره مملوء بشيء آخر غير العضل، ربما هو قلبه الكبير يرفع ضلوعه، أمه الفلاحة كان لها هذا الكبرياء الطبيعي، رغم انحناءة الشيخوخة كانت تمشي مرتفعة الصدر، أبي كانت له هذه المشية، كتفاه تميلان إلى الأمام قليلا، انحناءة خفيفة كالجمل القادر على السير بخطوة ثابتة والأحمال فوق ظهره.

فتح الكيس مكتوب عليه عمر أفندي، رأى الروب شامبر: «ده لك يا بابا من الإيراد الأول في العيادة.» عيناه رأيتهما تلمعان يكسوهما الضوء يروح ويجيء كالدمعة الحبيسة. - مبروك يا نوال نجاح العيادة. - مبروك لك يا بابا دي عيادتك أنت. - كنت اشتريلك تايير جديد، أنا راجل فلاح مش واخد على الروب دي شامبر ده ... دي حاجة كمالية. - لأ يا بابا دي حاجة ضرورية في البرد. - المهم دلوقتي إنتي وإخوتك وبنتك. - اطمن يا بابا على كل حاجة. - أنا مطمئن يا نوال عليهم طول ما إنتي موجودة، أنا طبعا موجود لكن مين عارف يحصل إيه بعد يوم أو يومين والأعمار بيد الله.

هل أدرك أبي أنه سيموت بعد ساعتين بالضبط من هذه الكلمات؟! كانت الساعة العاشرة مساء، عاد لتوه من المقهى الذي كان يسهر فيه أحيانا مع زملائه المحالين إلى المعاش، ألمحه جالسا وسطهم بشعره الأبيض كالهالة تحوط رأسه المرفوع، يلعبون الطاولة أو الشطرنج، يتناقشون في السياسة، قد يرفع رأسه ويلمحني سائرة في طريقي إلى العيادة، يشير إلي لأدخل وأسلم على أصدقائه «الدكتورة نوال، بنتي!» عيناه تلمعان بالفخر وهو ينطق كلمة «بنتي»، واللهجة نفسها حين كان يناديني في منوف وهو جالس في مقهى «جرامينو» ويقول لأصدقائه: «دي نوال بنتي تلميذة شاطرة عند مس هيمر وعاوزة تطلع دكتورة.» واللوحة الكبيرة تحمل اسم «الدكتورة نوال السعداوي»، يراها أبي من نافذة المقهى في المبنى المقابل، أصدقاؤه يرونها والجالسون في المقهى، والراكبون في الترام والأتوبيس، والسائرون في الميدان، يتحدث أبي مع أصدقائه عن ابنته الأديبة أيضا، قد يحمل إليهم قصة منشورة في إحدى المجلات: «بنتي الدكتورة نوال عندها موهبة من الطفولة، كنت أشجعها وأقول لها تقدري تجمعي بين الطب والأدب زي الدكتور إبراهيم ناجي والدكتور كامل حسين.»

كان اليوم هو الخميس 19 فبراير 1959م، انتهيت من فحص المريض الأخير في العيادة، كانت الساعة الثامنة مساء، خلعت معطفي وخرجت إلى الميدان، في المقهى لم ألمح الرأس العالي بالشعر الأبيض، كان أبي يسهر أحيانا مع أصدقائه في المقهى حتى العاشرة مساء، أسرعت الخطى إلى البيت عبر شارع الربيع الجيزي ومحطة القطار، كان هذا الطريق أقصر قليلا من النفق الطويل حتى أول شارع الهرم، كنت مدعوة تلك الليلة إلى حفل نقابة الأطباء في الأوبرج، تبدأ الحفلة في العاشرة مساء تشمل العشاء ومشاهدة بعض الراقصات والاستماع إلى بعض المطربات، لم أكن أنجذب إلى هذه الحفلات، صديقتي بطة قررت المرور علي بالبيت لتأخذني إلى الحفل في سيارتها: «لازم يا نوال تشوفي نجوى فؤاد رقصها يجنن، نفرفش شوية ونبعد عن قرف العيانين.»

المسافة من عيادتي إلى بيتي خمس عشرة دقيقة بخطوتي الواسعة السريعة، وجدت أبي جالسا في الصالة داخل الروب دي شامبر، كان في يده كتاب يقرؤه، أزاح نظارة القراءة قليلا إلى أعلى، يبتسم تحت لمبة النور: «جيتي بدري من العيادة الليلة؟» - «بطة جاية دلوقتي، عندنا حفلة في الأوبرج، النقابة بعتت لي دعوة، لكن مش عاوزة أروح يا بابا.» - «ليه يا نوال، لازم تروحي تغيري جو شوية من العيادة والمستشفى.»

كنت أريد أن أبقى معه تلك الليلة، منذ انشغلت في العيادة لم أعد أراه إلا في الصباح قبل أن أخرج إلى المستشفى، أحيانا أخرج قبل أن يصحو فلا أراه إلا بعد الظهر إن لم يخرج إلى المقهى، في يده كتاب الجاحظ، أريد أن أتحدث معه عن نظريته في المعرفة، سمعت بوق السيارة يصرخ أسفل البيت، من الشرفة رأيت بطة جالسة في السيارة أطلت من النافذة: اتأخرنا يا نوال نص ساعة.

كانت الساعة العاشرة مساء، البيت كله نائم إلا أبي يقرأ في الصالة، وأخي الأصغر في غرفته يراجع دروسه، تركت له على قصاصة ورق رقم التليفون في الأوبرج، أبي موفور الصحة، لم أتوقع شيئا تلك الليلة، تركت رقم التليفون بحكم العادة، في جسدي إدراك يسري عبر العمود الفقري، أهو تعب النهار الطويل؟! وقفت في غرفة العمليات سبع ساعات، لم أسترح إلا ساعة الغداء وذهبت إلى العيادة ، أبي في الصالة يقرأ داخل الروب دي شامبر، رفع عينيه من فوق الكتاب وأنا أفتح الباب، التقت عيوننا، أكان يقول شيئا؟! كأنما كانت آخر نظرة يلقيها علي: «خليك صاحي لغاية ما أرجع يا بابا مش حتأخر.» - «أنا سهران الليلة يا نوال مع عمنا الجاحظ.»

كنت أرتدي ملابس عادية، جيب وبلوزة وبلوفر أسود، بطة كانت ترتدي ثوب السهرة، زوجها إلى جوارها يرتدي بدلة لامعة والبابيون، في الأوبرج تفرقنا، اخترت مائدة بعيدة عن الصحب، ينتابني الحزن في الحفلات والأعياد، جلست على طرف المائدة مطرقة شاردة، الأطباء والطبيبات من حولي يأكلون ويشربون ويضحكون، الراقصة تطرقع بالصاجات على أنغام الرق والطبل، أمامي صحن فيه طعام وكوب فيه شراب، لم تكن عندي شهية لشيء، جاء المصور والتقط لي صورة، لم أرفع وجهي إلى الكاميرا، انتبهت إلى ضوء الفلاش فوق وجهي الشارد في حزن، وسمعت الصوت ينادي اسمي: الدكتورة نوال السعداوي، لك تليفون يا دكتورة!

كان هو أخي الأصغر، لم يقل إلا كلمتين: «تعالي بسرعة .» أصبحت أجري خارج الأوبرج، وجهي نحو الجيزة، لم أستطع الوقوف لانتظار التاكسي، تصورت أن قدمي أسرع، أحد الأطباء أدركني بسيارته، هل رآني وأنا أنهض من المائدة؟! أعرف اسمه، أخذني إلى البيت، أعلى السلم رأيت أخي الأصغر واقفا، باب الشقة مفتوح، وجهه خال من الدم، دخلت إلى الصالة، نور اللمبة مضاءة، فوق المنضدة، نظارة أبي والكتاب مفتوح، مقعده خال، تقدمت نحو الداخل بضع خطوات، جسدي يتأرجح كالقارب فوق الأمواج، أمد ذراعي كمن تمشي في النوم.

Bog aan la aqoon