Awraqaygee … Noloshayda (Qeybta Koowaad)

Nawal Sacdawi d. 1442 AH
152

Awraqaygee … Noloshayda (Qeybta Koowaad)

أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

Noocyada

جاءني خبر استشهاد أحمد المنيسي، صفرت أذناي وأنا أسمع الخبر، الصغير الحاد الممطوط كصفارة وابور الطحين في منوف، سمعت الجزء الأول من الاسم «أحمد» ثم كفت أذناي عن السماع.

في فناء كلية الطب أقاموا له الصوان فوق الأعمدة الخشبية يشبه خيمة السيرك في منوف، القماش السميك الأحمر يرفعونه في الأعياد والمآتم، يرصون الكراسي الصفراء من الخيزران، يمتلئ الصوان بالرجال، يشربون القهوة السوداء في فناجين صغيرة بيضاء، أو الشربات الأحمر اللون في أكواب طويلة من الزجاج، تهتز رءوسهم مع الترتيل الممطوط للقرآن، أو طرقعات الصاجات في الرقص والغناء.

كان هو حفل تأبين أحمد المنيسي، امتلأ الصوان بطلبة الطب والكليات الأخرى، جلس الأساتذة في الصفوف الأولى يتوسطهم العميد، زعماء الطلبة يروحون ويجيئون داخل بدل رصاصية اللون وربطة العنق سوداء، فؤاد محيي الدين يغطي عينيه بنظارة سوداء، يزم شفتيه علامة الحزن بشدة أكثر من اللازم، إبراهيم الشربيني من خلفه يمشي أقل قامة، أقل أناقة وأكثر حزنا، يوسف إدريس من حول عنقه ربطة سوداء غير معقودة بإحكام، يصيح بصوت غاضب في عمران عبد الموجود زعيم الإخوان: «يعني المنيسي شهيدكم إنتم بس يا إخوان يا مسلمين ولا شهيد مصر كلها؟!» - «المنيسي شهيدنا كلنا يا أخ يوسف لكن البرنامج مليان وفيه حفلات تأبين كثيرة جاية في السكة تقدر تتكلم فيها.»

تحول المنيسي إلى كلمة من أربعة حروف «شهيد»، ترن في أذني ثم تتوقف في حلقي، يداي باردتان كالثلج، ترتعدان فوق حجري وأنا جالسة في الصوان، أمسك يدي اليسرى باليمنى، أدفئ الواحدة في الأخرى، هواء بارد يتسرب من بين الفتحات في القماش.

يهتز الصوان مع حركة الهواء، زعيم الإخوان فوق المنصة يلقي خطبة طويلة، لم أسمع منها شيئا، صورة المنيسي تعود، واقف إلى جواري في معمل البيوكمستري، أصابعه الطويلة القوية حول أنبوبة الاختبار، تعلوها رعشة خفيفة، صوته يهمس مترددا: «أستودعك الله.» عيناه رموشها غزيرة مملوءتان بالبريق، طويل القامة، أطول قامة من أحمد حلمي وأكثر وسامة؛ فلماذا لم يخفق له القلب كما خفق للآخر؟!

كانت لقلبي مقاييس خاصة، لا يعترف بالقيم الموروثة ولا الرجولة المألوفة، ولا الوسامة ولا شيء، إلا ذلك المجهول المتخفي داخل عناصر الدم أو الكيمياء، داخل اللاوعي أو الوعي الطفولي، حلم الطفلة في السابعة من العمر، فتى الأحلام تنسجه الأيام من حكايات الأم والأب والجدة، ذلك البطل يحمل السلاح يحرر الوطن يشبه أبي في طفولتي، له ملامح سعد زغلول باشا إلا أن البريق في عينيه أشد، أنفه أكثر شموخا، إرادته لا تلين والنظرة في عينيه لا تنكسر.

أحمد المنيسي كانت له نظرة رغم البريق منكسرة، لا ترتفع عيناه إلى عيني، مثل زعيم الإخوان المسلمين «عمران عبد الموجود» وكل الطلبة في هذه الجماعة، لم تكن عيونهم تنظر مباشرة في العيون الأخرى، فهي دائما مطرقة إلى السماء، لا ترى إلا الله أو الفراغ.

الصوان من حولي يغرق في الضباب، كل شيء يبدو غير حقيقي حتى الموت، الوجوه تتراءى لي كما في النوم، الأصوات تختلط بعضها ببعض، الخطب المدوية في الميكروفون مثل الانفجارات في معسكر التدريب بجوار الكلية، صراخ النسوة وراء الميت الخارج من قصر العيني مثل الزغاريد في حفلات الزفاف، وأقف على صوت ينادي اسمي: «الأخت نوال السعداوي» كلمة الأخت ترن في أذني غريبة، لم أكن واحدة من الأخوات المسلمات، لم أنضم في حياتي إلى حزب من الأحزاب، تكرر النداء «الزميلة نوال» رن في أذني «الشهيدة نوال»، نهضت من مقعدي كما ينهضون من الموت، سرت فوق ممر طويل مفروش بالسجاد الأحمر، الحمرة قانية بلون الدم فوق الأسفلت، أمشي بحذر كأنما أمشي فوق الدم، أحسه تحت قدمي ينبض وينزلق، أمسك بعمود السلم الصاعد إلى المنصة، بضع درجات خشبية تهتز تحت جسدي، أقف وراء الميكروفون، أثبت قدمي في الأرض، أثبت عيني في آلاف العيون الشاخصة نحوي، يدوي الصوت الجهوري: «والآن أيها الإخوة كلمة الزميلة نوال السعداوي.»

أحملق في الوجوه لا أعرف ماذا أقول، لم أحضر في حياتي حفل تأبين، كلمة «حفل» تبدو لي مناقضة للموت، والمنيسي لم يمت في خيالي، حروفه لم يجف حبرها داخل كشكولي، صورته محفورة لا تختفي عن عيني، ماذا أقول لهؤلاء الرجال الجالسين يرمقونني بعيون محدبة ومقعرة، أجل! مات المنيسي أيها السادة، استشهد في سبيل الله والوطن، وفي سبيل ماذا نعيش نحن أيها السادة؟! لنلقي الخطب من فوق المنابر؟! لنقيم حفلات التأبين؟! لكن التأبين يعني الموت والمنيسي لم يمت، إنه حاضر أمامي في هذه اللحظة، أكثر حضورا من كل الحاضرين في الصوان، الذين يمجدون الشهداء دون أن يموتوا مثلهم، أليس الصمت أبلغ من الكلام وما جدوى أن نكون هنا؟! لماذا لا نكون هناك في جبهة القتال لتشرب الأرض دماءنا كما شربت دماء الشهداء؟!

كان أحمد حلمي هناك في الجبهة، والآخرون من الفدائيين، انقطعت أخبارهم عنا، لم نعرف هل ماتوا؟ هل أخذهم الإنجليز أسرى؟ هل قبضت عليهم الحكومة وأخفتهم في سراديب السجون؟! الأجانب أو الحكومة المصرية كلاهما تاريخ أسود، يتعاونان في الباطن، وفي الظاهر يتبادلان العداء، مصالحهما تتلاقى أو تتعارض إلا أن عداءهما للشعب المصري واحد، أيمكن أن يذهب دم المنيسي وغيره من الشهداء هدرا؟!

Bog aan la aqoon