لم يقولوا في لغتنا (أما قبل) كما أقول أنا يا حبيبتي، ولم تخطر لأحد قط، ولا يصححها وجه ولا تعليل، ولكني أضعها من أجلك، وما أشك أنها ستكون عبارة معشوقة من أثرك وأثر الحب عليها: وأقولها لك ولا أرتاب في أن ألسنة المحبين سترمي بها في كل زمن مراميها عند كل حبيبة ...
إنها كلمة حنانة، فيها الحب والذكرى، وفيها من نفسي ومن اللغة ومنك، وهي غريبة باللغة الغرابة؛ لأني صنعتها صنعة قلب لا صنعة لسان، ففيها الفن أي سر الحسن، أي حروف التصوير، أي المجلس الذي كان لنا أمس.
ويد المصور الملهم الحاذق لا تمر على الصورة بحركات الرسم وخطوطه، بل بحركات الفكر والقلب، ورعشات اللذة والألم، مستفيضة بالوحي الذي من لغته الخطوط والأبعاد والظلال والألوان. فما الرسم إلا الوجه الممكن لاتصال الإنساني من الفكر بالإلهي في الأشياء لخلقها مرة ثانية، وكذلك ليست (أما قبل) إلا الوجه الممكن عندي لاتصالي بأمس، وانتقال قطعة كانت من وجودنا في وقت إلى وجودنا في كل وقت، وخلق ما كان من قبل خلقا تصويريا في كلمة.
قالوا (أما بعد) وسموها فصل الخطاب
1
وأنا أقول (أما قبل) وأسميها وصل الماضي؛ وبها نجعل لما فاتنا مما نحبه أو نؤثره لسانا، ونعيد إليه الصوت، ونفتح له باب الساعة التي نكون فيها، ونخترع للمحبين لفظا سحريا لم تستطع حواء بجنة خلد أن توحيه لآدم، وأوحيته أنت لي بمجلس حبك في لحظة! ••• «وأما قبل» ... فبماذا أصف مكانا للحب كأنما مر به سر الخلود فإذا الوقت فيه لا يشبه نقصانا من العمر بل زيادة عليه، وكانت يا حبيبتي كل دقيقة وثانيتها في مجلسك الساحر كأنما بعض الفكر والحس لا بعض الزمان والمكان؟
بماذا أصف الوقت الغض الذي كان ينبت لساعته رطبا نديا كأنما انبثق من قبلتين؛ لأنه مر بهواء حجرتك التي أنت فيها، ثم جعلني أعرف بعد أن فارقتك ولقيت الناس أن الزمن قد يكون من جدبه في أنفاس الناس حطبا يابسا وهشيما؟
وبماذا أصف ما لا يوصف ولا يوجد بيانه في اللسان مع أنه حي قائم في العين والضمير: إذ أشعر بك في ذلك المجلس وكأن أكثر معانيك الإنسانية تتهارب من حوله؛ لتسبغ عليك من اللطف معاني ملائكية سامية تتكلم بوجهك كلاما هو شعر الحب؟
وإذا أشعر من شدة ما وجدت بك ووطأة حبك على قلبي أنه لو حل في كرسيك شخص من معانيك لما كان إلا ملكا موترا في إحدى يديه قوسا محنية من صاعقة وفي يده الأخرى سنان يمور كالشعلة، وهو يرمي ويطعن وما يرمي ويطعن إلا لحظا وابتساما؟
بل بماذا أصف ما لا يوصف إذا أردت بلاغتي أن تكون على مقدارك وأنت تلجين على قلبي من كل جوارحي، وأراك أمام عيني تحولا مستمرا في خواطري ومعاني، فلا أملك أن أفكر في شيء ثابت، كأن دلالك قد سلبني حتى قوة التحديد، ويأتي لك أن يخضع لي منك شيء ولو بالمعنى للفظ في الذاكرة ...؟ ••• «وأما قبل» ... فلقد كنت وما أحسن منك في جملة ما أرى إلا أن الجمال الرائع في معانيه الإنسانية إنما هو قدرة في بعض النساء على اختراع أمثلة أرضية من الجنة.
Bog aan la aqoon