167

وكما ينزع المرض عافية لبسها الدم، نزع الهجر أيام قلبي، وتركني في أيام كأنها من غير زمني، ووضعني منها في حياة كأنني لا أحياها، وانتهى بي إلى حالة كأنما وقفت الحياة عندها، وقالت لي: سر وحدك وعش في آلامك لا في!

هي حالة النار التي كانت مشبوبة، وتهم أن تخمد فتقول للأثر الذي تخلفه: عش وحدك يا رمادي ...!

أما إني مثلك يا رماد الجمر: قطعت حياة اللهب والشعاع إلى آخرها المنطفئ ... •••

أية عاصفة احتملتني من أيام الشمس وليالي القمر، وألقت بي في هجر منقطع كليالي القطب المضيئة بجبال قائمة من الثلج كأنها شموع تنير في ذلك الهول المحيط بها؛ إذ لا تظهر فيه النجوم على سمائها إلا كحصى من الجليد، ولا تمر الشمس هناك في أفقها إلا وهي ترتعد من البرد؟

كان الجو العاصف كلمة غضب صغيرة، ولكن أرادها قلبي بمعنى، وأرادها قلبها بمعنى غيره، فلم يبق للكلمة على ما أردت وأرادت لا معنى في نفسها ولا معنى في نفسينا، وبطل منها عمل اللغة فإذا هي قدر عات لا زمام لنا من الفهم على جمحاته.

كلمة كانت من المادة النفسية المشتعلة بالعناد، المنفجرة بالغضب، المصوبة بعد ذلك كالرصاصة المنطلقة! لا تراها بدأت إلا قلت انتهت، وربما قالوا: رميت، والمعنى قتلت، وإذا قيل في الرصاصة المنطلقة قد ذهبت، فاعلم أنه قد مات من اللغة إلى الأبد لفظ رجعت أو ترجع ...!

وعلى ظهر كلمة الغضب وضع الماضي رحاله المملوءة جمالا وفكرا وعاطفة ولذات، وانحدر على طريق النسيان فذهب حديث لا يلحق، ورمى إلى حيث لا يعود!

ألا ما أشأم الساعة التي تعارض فيها كلمة قلب كلمة قلب آخر يحبه، وتقف لها كبرياء معشوقة بإزاء كبرياء تعشقها، وتضيق نفس على نفس تحاول كلتاهما أن تحبس الأخرى في سجن كلمتها!

تلك ساعة تكون والله بين العدوين أخف وأرحم مما هي بين الحبيبين، ولعمري وعمرك ما التقاء العدو بعدوه في مناجزة إلا صورة هم وروع مصغرة من صورة ابتعاد حبيب عن حبيبه في هجر ... إن معركة الدم لأصغر من معركة الدمع! •••

كبرياؤها الآتية من أنها هي المعشوقة، وكبريائي التي أستشعرها من أني أنا محبها، كلتاهما كانت العزيمة الهائجة المحتدمة التي أدت شدة المبالاة فيها إلى عدم المبالاة، وجمعت منا جهلتين غير مبصرتين، واستكبر لها الواقع المحدود، فانتهى من غضبه إلى سورة معركة، واندفع بها التيار الذي جعل يزحزحنا واحدا عن واحد حتى فصلنا انفصال شاطئين، وفقدنا ما يسمى في اللغة السياسية: «إدراك حقيقة الحالة» فانثترت بيننا ما تسميه تلك اللغة: «بالمسائل الشائكة» وأصبحنا من حيرة وعجز وسوء بصيرة في مثل الحالة التي يطرح فيها اللغز لحله فإذا منه لغز آخر، وكان عقدة ناعمة كملمس الحية فانتهى إلى مس السم الناقع، ثم ضلت في ضلالنا الكلمة التي كانت تصلح للصلح، وضاق عنا الحب بأخلاقه فلم يبق مني ومنها غير «لا» قائمة في وجه «لا». •••

Bog aan la aqoon