فضحكت على رغمها، وقالت بلهجة تشي بالاحتجاج والمداعبة معا: تكلم عن أبي بأدب.
وواصلت الكلام وهي تقرصه في أذنه: طالما ساءلت نفسي عما يريد لي، فخيل إلي أحيانا أنه يكره أن يزوجني من أحد.
فحملق فيها منكرا، فعادت تقول: رأيته مرة يرمى بيت جدنا بنظرة غاضبة ويقول: «إذا كان قد رضي لأبنائه وأحفاده بالهوان، فهل يرضى به لحفيدته؟! لا مكان لائق بهند إلا هذا البيت المغلق.» ومرة قال لأمي: إن فتوة كفر الزغاري يرغب في الزواج مني، ففرحت أمي فصاح بها حانقا: «يا وضيعة .. يا خسيسة، من يكون فتوة كفر الزغاري هذا؟ إن أحقر خادم في البيت الكبير أشرف منه وأنظف!» فسألته أمي في حسرة: «فمن تراه الجدير بها؟» فصاح: «علم ذلك عند الطاغية المتواري خلف أسوار بيته، إنها حفيدته، وليس في الأرض من هو أهل لها! أريد لها زوجا مثلي أنا!» فقالت أمي على رغمها: «أتريدها أن تكون تعيسة مثل أمها؟!» فهجم عليها كالوحش وراح يركلها بشدة حتى جرت خارج الكوخ! - هذا هو الجنون بعينه. - إنه يكره جدنا، ويلعنه كلما ذكره، لكنه في أعماقه يتيه إجلالا بأبوته.
فكور قدري قبضته وجعل يضرب بها فخذه ويقول: لعلنا كنا نكون أسعد حالا لو لم يكن ذلك الرجل جدا لنا!
فقالت بمرارة: لعلنا.
فجذبها إلى صدره بشدة تناسب الحدة في قوله وضمها إليه بقوة. واستبقاها هكذا بين يديه ريثما تمر فترة الانتقال بين الشواغل المتعبة وبين الهيام الموعود، وقال: أعطيني فاك.
عند ذاك تراجع همام من موقفه عند الصخرة، واتجه بخفة نحو الأغنام وهو يبتسم في حياء وأسى. خيل إليه أن الهواء يثمل بأنفاس الحب، وأن الحب ينذر بالمآسي. لكنه قال لنفسه: «صفا وجهه ورق، لا يرى على هذا الحال إلا خلف الصخرة، فمن لنا بقوة هذا الحب السحرية لتزيل متاعبنا؟» هذا والسماء تشحب في استسلام، وأنفاس المغرب تتردد في خمول، والسمرة تزحف كنغمة وداع وانية، وهناك تيس يثب على عنزة، وعاد همام يحدث نفسه: «ستفرح أمي يوم تلد هذه العنزة؛ ولكن ميلاد إنسان قد يجيء بالكوارث، فوق رءوسنا لعنة من قبل أن نولد، وأعجب عداوة هي التي لا تجد لها من مبرر إلا أنها بين أخوين. إلى متى نعاني من هذه الكراهية؟! لو نسي الماضي لابتهج الحاضر، ولكننا سنظل نتطلع إلى هذا البيت الذي لا عزة لنا إلا به ولا تعاسة إلا بسبب منه!» وعلقت عيناه بالتيس فابتسم. ومضى يدور حول الغنم وهو يصفر ويلوح بعصاه. وحانت منه التفاتة نحو الصخرة الكبيرة الصامتة فبدت في وقفتها، كأنها لا تبالي شيئا في الوجود.
15
استيقظت أميمة كعادتها عندما لم يبق في السماء إلا نجمة واحدة. ونادت أدهم حتى استيقظ متأوها. ونهض الرجل فغادر غرفته مثقلا بالنعاس إلى غرفة خارجية متصلة بها حيث ينام قدري وهمام فأيقظهما. وبدا الكوخ في مظهره الجديد ناميا ممتدا كأنه بيت صغير، وأحاط به سور ضم إليه فراغا خلفيا لإيواء الأغنام. وانتشرت على السور أفرع اللبلاب؛ فلطفت من جفاء منظره، ودلت على أن أميمة لم تيئس بعد من تحقيق حلمها القديم بأن تهذب ما استطاعت كوخها على مثال البيت الكبير. واجتمع الرجال في الفناء حول صفيحة مملوءة بالماء، فغسلوا وجوههم، وارتدوا جلابيب العمل، وحمل الهواء من داخل الكوخ رائحة احتراق خشب، وبكاء الإخوة الصغار.
وأخيرا جلسوا حول الطبلية أمام مدخل الكوخ يأكلون من حلة فول مدمس. وكان جو الخريف رطيبا مائلا للبرودة في هذه الساعة المبكرة، ولكنه لاقى أجساما قوية صمدت حيال نزواته. وعن بعد بدا كوخ إدريس وقد كبر وامتد كذلك. أما البيت الكبير فقام في صمت منطويا على ذاته كأنما لا يربطه سبب بهذا العالم الخارجي. وجاءت أميمة تحمل كوز لبن محلوب لتوه فوضعته على الطبلية وجلست. وعند ذاك سألها قدري بسخرية: لماذا لا تبيعين اللبن إلى بيت جدنا الموقر؟
Bog aan la aqoon