فقال قدري بصوت كالأنين: لا أستطيع. - إنك استطعت أن تقتله. - لا أستطيع يا أبي. - لا تقل «أبي» قاتل أخيه لا أب له، ولا أم له، ولا أخ له. - لا أستطيع.
فشد قبضته عليه وقال: على القاتل أن يحمل ضحيته.»
ثم تناول الشاعر الرباب وأخذ في الإنشاد. وعند ذاك قال صادق مخاطبا قاسم: اليوم أنت تحيا الحياة التي كان بها يحلم أدهم!
فبان الاحتجاج في وجه قاسم وقال: لكن يصادفني عند كل خطوة سبب من أسباب الكدر وتنغيص الصفو، وأدهم لم يحلم بالفراغ والرزق الموفور إلا باعتبارهما طريق السعادة الصافية.
ولاذ ثلاثتهم بالصمت مليا حتى قال حسن في براءة: هذه السعادة الصافية لا يمكن أن توجد أبدا! - فلاحت في عيني قاسم نظرة حالمة وقال: إلا إذا توافرت أسبابها للجميع!
وفكر في الأمر، في أنه يحظى بالمال والفراغ، ولكن تعاسة الآخرين تفسد عليه سعادته. وها هو ذا يؤدي الإتاوة لسوارس صاغرا. لذلك يود أن يشغل بالعمل فراغه، كأنما ليهرب من نفسه، أو يهرب من حارته القاسية. ولعل أدهم لو نال ما تمنى وهو على مثل حاله هذه لضاق بالسعادة ذرعا، ولتاقت للعمل نفسه.
وفي تلك الأيام طرأت أعراض غريبة على قمر، فقالت سكينة: إنها أعراض الوحم. ولم تكد قمر تصدق، كان أملها في الحبل حلما من الأحلام، لذلك استخفها الفرح، وامتلأ قلب قاسم بالغبطة حتى أذاع الخبر في كل ركن له فيه حبيب، فعلم به بيت عمه ودكان مبيض النحاس وبقالة عم عويس وكوخ المعلم يحيى. وغالت قمر في العناية بنفسها حتى قالت لقاسم بلهجة ذات معنى: ينبغي أن أتجنب أي مشقة.
فقال وهو يبتسم ابتسامة المدرك لما تعني: على سكينة أن تحمل عنك أعباء البيت، وعلي أن أتجمل بالصبر!
فقبلته قائلة في جذل الأطفال: أود أن أقبل الأرض شكرا!
وانطلق إلى الخلاء ليزور المعلم يحيى لكنه توقف عند صخرة هند، فمضى إلى ظلها وجلس. ورأى على مرمى البصر راعيا يرعى غنما فامتلأ قلبه بالعطف وتمنى لو يقول له: لا يسعد الإنسان بالفتونة وحدها، بل لا يسعد الإنسان بالفتونة إطلاقا. لكن أليس الأجدر أن يقول ذلك للفتوات من أمثال لهيطة وسوارس؟ ما أعطفه على أولاد حارته الذين يحلمون بالسعادة عبثا ثم سرعان ما تلقي الأيام بأحلامهم مع النفايات في أكوام الزبالة. لماذا لا ينعم بالسعادة المتاحة ويغمض العين عما حوله؟ لعل هذا التساؤل حير يوما جبل كما حير يوما آخر رفاعة. كان في وسعهما أن ينعما بالراحة ويخلدا إلى السكينة والسلام، فما سر هذا العذاب الذي يطاردنا؟ كان يتأمل وهو ينظر إلى السماء فوق الجبل، سماء صافية ما عدا قطعا صغيرة من السحب متفرقة كأوراق الورد الأبيض. وخفض رأسه فيما يشبه الإعياء فوقع بصره على شيء يتحرك، وضح أنها عقرب تسرع نحو جحر. ورفع عصاه بسرعة وهوى بها عليها فهرسها. وتفرس فيها مليا بتقزز، ثم قام ليواصل رحلته.
Bog aan la aqoon