فهتف أدهم غاضبا: لعنة الله على الوقف، أرهقني وغير القلوب علي وسلبني راحة البال، فليذهب في داهية!
فوضعت أصبعها على شفتيه وهي تقول: لا تكفر بالنعمة يا أدهم، إن إدارة الوقف شأن خطير، وقد تجر وراءها نفعا لا يخطر بالبال ... - جرت حتى الآن المتاعب .. وحسبنا مأساة إدريس!
فابتسمت، لكن ابتسامتها لم تنم عن بهجة وإنما دارت بها اهتماما جديا تجلى في نظرة عينيها، وقالت: انظر إلى مستقبلنا كما تنظر إلى الغصون والسماء والعصافير!
وواظبت أميمة على مشاركته جلسته في الحديقة. ولم تكن تعرف الصمت إلا في النادر. لكنه اعتادها، كما اعتاد الإصغاء بنصف انتباه أو من دون ذلك، وعند الحاجة يتناول الناي لينفخ فيه ما شاء له الطرب. واستطاع أن يقول في رضا تام إن كل شيء طيب. حتى شقاوة إدريس باتت شيئا مألوفا. لكن المرض اشتد على أمه. وعانت آلاما لم تعرفها من قبل تقطع لها قلبه. وكانت تدعوه إلى جانبها كثيرا فتسبغ عليه أكرم الدعاء. ومرة قالت له بتوسل حار: «ادع ربك دائما أن يقيك الشر ويهديك سواء السبيل.» ولم تدعه يذهب. وظلت تراوح بين الأنين وبين مخاطبته وتذكيره بوصيتها حتى فاضت روحها بين يديه. وبكاها أدهم، وبكتها أميمة، وجاء الجبلاوي فنظر في وجهها مليا ثم سجاها باحترام وقد تجلت في عينيه الحادتين نظرة كئيبة مليئة بالشجن.
وما كاد أدهم يعود رويدا إلى مألوف الحياة حتى ارتطم بتغير طارئ على أميمة لم يعرف له علة. بدأ بانقطاعها عن مجلسه في الحديقة، فلم يسر بذلك كما كان يتوهم أحيانا. وسألها عن سر انقطاعها فاعتلت بأعذار شتى كالعمل أو التعب. ولاحظ أنها لم تعد تقبل عليه بالاندفاع المعهود، فإذا أقبل هو عليها لاقته دون عاطفة حقيقية، كأنما تجامله، وكأنما مجاملته عناء. وتساءل عما هنالك! لقد مر بشيء شبيه بهذا، ولكن حبه صمد له وتغلب عليه. وكان بوسعه أن يقسو عليها، وود أحيانا لو يفعل ذلك ولكن منعه انكسارها وشحوبها ومغالاتها في التأدب معه. أحيانا تبدو حزينة، وأحيانا تبدو حائرة، ومرة باغت في عينيها نظرة نافرة حتى ركبه الغضب والجزع معا. وقال لنفسه: «فلأصبر عليها قليلا، إما ينصلح حالها أو فلتذهب في ألف داهية!»
وجلس إلى أبيه في مخدع الرجل ليعرض عليه حساب الشهر الختامي، وتفحصه الأب دون أن يعنى بمتابعته وسأله: ما لك؟
فرفع أدهم رأسه نحوه في دهش وقال: لا شيء يا أبي.
فضيق الرجل عينيه وتمتم: خبرني عن أميمة.
فانخذلت عيناه تحت نظرة أبيه النافذة وقال: بخير، كل شيء طيب.
فقال الجبلاوي بضجر: صارحني بما عندك.
Bog aan la aqoon